الشروط التربوية في إنهاء الداعشية

ها هو الإرهاب الأسود يواصل ضرباته في عالمنا العربي، ومن جديد يختار “أرض الكنانة” موجها ضربتين بائستين للأبرياء وذلك في سياق محاولاته المتكررة لضرب مجتمع الوحدة الوطنية المتأصل بين المسلمين والمسيحيين. فهل من خلاص من جرائم كل فصائل “العائلة” الداعشية؟

يرى أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث الفيلسوف الفرنسي (إميل دوركايم) أن: “المجتمع يستطيع البقاء فقط إذا وجد بين أعضائه درجة من التجانس والتكامل، وأن النظام التربوي في المجتمع، متمثلاً في المدرسة، يعد أحد الركائز المهمة في دعم واستقرار مثل هذا التجانس وذلك بغرسه في الطفل منذ البداية الأولى للمدرسة”. كما يرى أنه: “من خلال العملية التربوية يتشرب أفراد المجتمع القيم الاجتماعية الإيجابية التي تغرس في نفوسهم قيم الانتماء الوطني ومشاعر الوحدة الوطنية التي تخلق التماثل الاجتماعي الضروري للمحافظة على بقاء الأمن والاستقرار في المجتمع”.

كثرت الدراسات والمقالات التي تتحدث عن قرب سقوط “دولة”/ منظمة داعش الإرهابية. لكن التفاؤل بسقوطها والقضاء عليها لا يعني بالمطلق القضاء على “الداعشية” كفكر معشش في شرائح ليست هامشية على امتداد المجتمع. ومن المؤكد أن الانتصار على داعش عسكريا فحسب سيكون منقوصا. فالحرب الحقيقية أساسها مواجهة فكرية وعقائدية متواصلة، بالحجج والبراهين، تكون قادرة على تبديد فكر الارهاب والجهل المنتشر اليوم في الشرق الأوسط خصوصا. إذن، معركتنا مع داعش فكرية وعقائدية بامتياز، ومن أجل الانتصار الحقيقي لابد أن ندرك أن الحرب لا يمكن حسمها إلا فكرياً .

لنعترف أن “الداعشية” لم تأت حصرياً من بعض كتب الفقه والتراث، بل تغذت من الواقع المجتمعي العربي البائس. وللأسف، تأثرت المؤسسات التربوية بهذا الواقع بعد أن تسللت إليها أفكار التطرف والعنف وثقافة النبذ والإقصاء. وعليه، فإن القضاء النهائي على “الداعشية” يكون عبر مشروع سياسي وإصلاحي شامل متعدد الأبعاد وطويل الأمد. ومن المؤكد أن السياسة التربوية الناجعة هي نقطة الإنطلاق الأولى في مسلسل القضاء على “الداعشية”. فالمستهدف في السياسة التربوية هم أساسا صغار السن والشباب، أمل المستقبل القادر على تحقيق هذا المشروع السياسي الإصلاحي القائم على الاعتدال والوسطية. من هنا تأتي ضرورة تركيز السياسة التربوية على مفاهيم إنسانية عصرية مثل مفهوم المواطنة الصادقة والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد مهما تعددت الديانات والأصول العرقية والأيديولوجيات فيتساوى الجميع بالحقوق والواجبات مع احترام الرأي والرأي الآخر ومفهوم العيش المشترك والتعددية. وعليه، مطلوب تصحيح، ومواصلة تحديث السياسة التربوية، ومعالجة الصور السلبية ضد الآخر من خلال تأصيل فكرة العيش المشترك والحوار اليومي. وهو بالضبط ما يعاكس الفكر/ الطرح المتطرف. فأصحاب هذا الفكر رغبتهم جامحة في إقصاء الآخر باعتبارهم – حسب رؤيتهم – الوحيدون الذين يملكون “الحق” وبالتالي هم المؤهلون لفهم الحقائق والأمور، فنظرتهم للحقائق أحادية قاطعة لا تقبل المناقشة.

إن نجاح عملية إصلاح السياسة التربوية يحتاج إلى روح التوافق والمشاركة بين صانعي القرار في الحكومة والمجتمع الأهلي على حد سواء، وليس إلى روح المناكفة وإثارة النعرات التقليدية المشبعة بنفس الإقصاء على أرضية عدم قبول الرأي والرأي المخالف، الأمر الذي عانت منه البلاد العربية طوال أكثر من قرن على أيدي معظم الاتجاهات الفكرية والسياسية بحيث أدى ذلك إلى ترسيخ “بيئة” للتطرف. كما أن التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يمر بها العالم اليوم أصبحت تفرض على واضعي السياسة التربوية مسؤوليات مضاعفة مهمتها تشريب الناشئة المعايير والقيم التي تحافظ على أمن واستقرار المجتمع. وبذلك، فإن السياسة التربوية عملية متكاملة يعتمد التعامل والترابط فيها على أضلاع المربع الذهبي: المنهاج، والمعلم، والطالب، وولي الأمر ذلك أنه لا يمكن النهوض بالسياسة التربوية دون تحسين مضامين أضلاع هذا المربع مثلما إنه لا يمكن مناقشة دور المدرسة المأمول في مواجهة الفكر المتطرف بمعزل عن تطوير وتعاون هذه العناصر، التي بعافيتها يمكن للسياسة التربوية تأدية عمل حيوي في الحفاظ على تماسك المجتمع وخلق الانتماء الوطني ومشاعر الوحدة الوطنية بين أفراده وهي شروط ضرورية للمحافظة على بقائه وتكامله في نطاق سياسة عصرية مستدامة.

إن ملف إنجاز السياسة التربوية القويمة، الهادفة إلى إصلاح المناهج التعليمية والعملية التربوية حين تبغي محاربة التطرف والإرهاب، هو واحد من أصعب الملفات في عالمنا العربي كونه يتعاطى مع المجتمع ومكوناته، وكذلك مع مؤسسات الدولة الرسمية، وتحديداً الأسرة والمؤسسة التعليمية بكامل بناها من مدارس ومعاهد وكليات. لذا، نشدد على ضرورة إقرار سياسة تربوية تعتمد منهج التعليم الناقد، واحترام دور العقل والمنطق، واكساب الطالب المنهج العلمي الراسخ بالتفكير والممارسة، واكسابه القدرة على المقارنة والتحليل والتركيب والاستنتاج والإبداع. وفي هذا السياق، الضروري أصلا لكل نهوض، يتأتى القضاء الحقيقي على “الداعشية” عبر ترسيخ الفكر والإقناع المناهض للغلو والتطرف، وهو الأمر الذي يخافه “خالقو” الإرهاب أكثر من المواجهة العسكرية. ومع ذلك، بدون سياسة تربوية تكون القاعدة الأولى والأساس للإنطلاق منها إلى النهضة، ستبقى فكرة/ ظاهرة “داعش” معنا (ومع العالم) لمدة طويلة حتى بعد القضاء على “دولتها” عسكريا.