الهبة الفلسطينية: بيئتها الإسرائيلية والفلسطينية، والآفاق
من يتابع معالم الواقع الإسرائيلي في 2015 – 2016، يلحظ وفق سياسيين ومحللين إسرائيليين، أن الدولة الصهيونية تواجه سنوات سيئة: أولاً، إنسداد أفق مسار المفاوضات عبر فرض الوقائع على الأرض من استعمار/ “استيطان” يقود إلى الدولة ثنائية القومية. وثانياً، تراجع العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية: فرغم التملق السياسي المتصاعد من المرشحين للرئاسة الأمريكية، فإن الشرخ ما عاد يقتصر على معسكر الديمقراطيين إذ شمل معسكر الجمهوريين أيضاً. بل إن ذلك الشرخ وصل، ثالثاً، إلى “الجالية اليهودية” سواء في الولايات المتحدة أو في بقية أنحاء العالم. ورابعاً، حركة مقاطعة الاحتلال الاسرائيلي حول العالم BDS (حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات) نجحت باستقطاب آلاف المؤيدين، ونقلت قادة الدولة الصهيونية من حالة الغضب إلى حالة قلق عقب تسبب تلك الحركة بخسائر سياسية وإعلامية واقتصادية ومعنوية مهمة للدولة الصهيونية. وخامساً، وضع المفوضية الأوروبية ملصقات تميز المنتجات الوافدة من “المستوطنات”، الأمر الذي أثار غضباً واسعاً اعتبرته القيادة الإسرائيلية نوعاً من أشكال العقوبات أو المقاطعة. هذا كله، كي لا نذكر معالم أخرى عن سوء الوضع داخلياً وخارجياً.
في الأثناء، ظهرت “هبة ترويع الإسرائيليين” الفلسطينية منذ أكثر من ثمانية أشهر حيث اعتبرها سياسيو وجمهور اليمين واليمين المتطرف إرهابا صرفا يقف وراءه تحريض من الرئيس الفلسطيني والفصائل الفلسطينية والإعلام، مقترحين حلولا عسكرية لمواجهتها، بل هم يرونه متابعة للجهد الفلسطيني والعربي والإسلامي لإبادة اليهود!! بالمقابل، ظهر موقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي، وإن كانت الشريكة في كل الجرائم التي ارتكبتها إما عبر مبادراتها أوتنفيذها قرارات السياسيين، فإنها اليوم تحذر قيادتها السياسية من مواصلة طريق التصعيد مع الفلسطينيين، معتبرة أن كل الخطوات التصعيدية التي تقرها حكومة (بنيامين نتنياهو) اليمينية لن تحقق أي هدف سوى تحفيز الفلسطينيين أكثر على مواصلة هبتهم. كذلك، يحاول باحثون ومراقبون إسرائيليون إقناع قيادتهم أن الشعور الفلسطيني بالاضطهاد الوطني والاقتصادي والشخصي هو المغذي للهبة، وأن الحل يجب أن يكون سياسيا وليس عسكريا. وهؤلاء يطالبون في كتاباتهم بضرورة وقف السعار اليميني “الشعبي” الإسرائيلي وفي إجراءات حكومتهم، وينادون بعدم اللجوء إلى الإعدام الميداني الذي يزيد عدد الضحايا، وكذلك عدم السماح للإعلام بنقل صور ما يجري باعتباره مصدر إلهام للشباب الفلسطيني، مع متابعة انتقاد (نتنياهو) باعتباره يبحث عن العلاج العنيف قبل معرفة المرض.
إسرائيل تقوم بإذكاء نار الهبة الفلسطينية يوميا بمقارفاتها وعلى قاعدة أن الدم يستولد الدم، مثلما هو الحقد يستولد الحقد، والقمع يستولد الكفاح، بخاصة وأن هذه الأمور أصبحت تمس الجانبين الوطني والديني فيما يحدث في المسجد الاقصى. وتتجلى هذه المقارفات، الساعية لقتل “الهبة”، أولا: في تكثيف عمليات التنكيل والاعتقالات والإعدامات الميدانية، والحصار الاقتصادي الخانق، وتدمير منازل منفذي عمليات، وسحب الإقامات من مواطني القدس، واستهداف أطفال الحجارة قتلا واعتقالا، وإقامة الحواجز على مداخل القرى والبلدات والمدن واقتحامها، والسكوت على، بل تشجيع، قطعان المستعمرين/ “المستوطنين” في اعتداءاتهم… الخ. ثانيا: إخراج الجناح الشمالي في “الحركة الإسلامية” في فلسطين 48 “عن القانون”، وهي الحركة التي تدير حملة (الأقصى في خطر) منذ 20 عاما، مستهدفين ليس الحركة الإسلامية بمفردها بل كل فلسطينيي 48. ثالثا: “البرهنة” للفلسطينيين، عبر الإعدامات الميدانية، أن أبناءهم “يموتون هباءا”.
مقابل كل ما سبق، ورغم الميزان غير المتوازن، نرى الفلسطينيين في الاتجاه المعاكس مصممون على ديمومة “الهبة” عبر مطالبهم: أولا، تطبيق قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير بوقف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، والعودة إلى الوحدة الوطنية بعد تجاوز الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني البائس. ثانيا، تفعيل الدور العربي/ الإسلامي، دولا وشعوبا. ثالثا، تعميق التعاون مع قوى التضامن الدولي، وعلى رأسها حركة مقاطعة الاحتلال الاسرائيلي حول العالم BDS. رابعا، عودة الفصائل الفلسطينية لسابق عهدها النضالي عبر الإسهام في إيجاد إطار قيادي موحد لضمان ديمومة “الهبة” وعدم الاكتفاء بالموقف الإعلامي اللفظي الممجد!!
لقد مرت ثمانية أشهر على “الهبة”. ووفق إعلام الدولة الصهيونية جرى تنفيذ (282) عملية ومحاولة لتنفيذ عمليات (إرهابية) خطيرة، كما تصفها حكومة اليمين المتطرف، كان معظمها عمليات إطلاق نار ودهس وطعن، قتل خلالها (34) إسرائيلياً وأصيب (342) آخرين بجروح، فيما زعم “الشاباك – جهاز الأمن العام الإسرائيلي” وجيش “الدفاع” أنهما أحبطا أكثر من (290) عملية منذ بداية العام 2015، منها (25) عملية اختطاف، و(15) عملية استشهادية. وإن كان ثمة من رأى انخفاضاً في العمليات الفلسطينية، فإن عددا من رجال الاستخبارات والأمن وصفوا هذا التراجع بالمؤقت الذي قد ينقلب خلال يوم واحد أو حتى ساعات قليلة. وأحداث ومعلومات الاسبوع الماضي تؤكد ذلك غير أن المحزن فعلاً يتجلى في غياب توافق فلسطيني حول أهداف وآفاق”الهبة”، الأمر الذي أبقاها في دائرة الفعل الشعبي الفردي الذي كان يمكن أن يتطور نحو هبة شاملة .. ولابد من حدوث ذلك طال الزمان أم قصر.