أيام “الزمن الجميل”: حين أرشد المثقف البندقية

لطالما كان المثقف جزءً من الحالة العامة للمجتمع، يتأثر كغيره من البشر بما يدور حوله، ينحني أمام الضغوط السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية، رغم أنه في الأصل عين المجتمع لا يليق به الهروب والتلون. هذا المثقف حينما يحمل السلاح، أيا كان السلاح، تظهر الشجاعة والجرأة وقوة الإيمان بمفردات القيم الوطنية. وذات يوم، انضم المثقف الفلسطيني إلى صفوف المقاومة، وضرب أروع الأمثلة عن المثقف المناضل، الذي تصعب هزيمته، وشارك في صنع الأحداث الفلسطينية. فالبندقية عنده “ليست للإيجار” بل هي التزام. آمن بأن الحلول تنبع من فوهة البندقية بالتوازي مع ثقافة ورؤية ومنهج وتربية وخط سياسي. آمن بالمقاتل المثقف، حيث لا انفصال بين النشاط الفكري والثقافي والوعي السياسي والعسكري، فنجح في جعل الثقافة جزء من السلوك وأسلوب الحياة ونمط التفكير.

نقول هذا الكلام بمناسبة صدور كتاب “حوار مع معين الطاهر… الكتيبة الطلابية: تأملات في التجربة” لإلياس خوري وميشال نوفل، وهو كتاب لا يتحدث عن شخص، بل أراد المحاوران أن يرسما “بورتريه” لقائد متميز، مبرزين كل رفاقه الذين ضحوا من أجل قضيتهم، راسمين الطريق الصحيح الذي لو التزم به قادة الأمس لما وصلت القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه اليوم. والكتاب شهادة مباشرة من شاهد عيان على تجربة مناضلي (الكتيبة الطلابية) الفتحاوية التي تحولت فيما بعد إلى (كتيبة الجرمق) في قوات العاصفة، يسطرها (معين الطاهر) القائد الثاني والأخير للكتيبة. وما زالت قصة (كتيبة الجرمق) في حركة فتح تنعش ذاكرة جيل بكامله، وتستدعي حكايات بطولية شائقة عن مناضلين رواد قدموا تضحيات كبرى في سبيل فلسطين، وضربوا أروع الأمثلة في البطولة والتجرد والالتزام.

تجربة (كتيبة الجرمق)، أعلى قمة في فلسطين كرمز إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني، واحدة من التجارب الكبرى في النضال الفلسطيني والعربي، تخللتها منعطفات أيديولوجية – دينية رافقها التباس فكري، لكنها بالمقابل كانت تحمل علامات صحة ثورية: الطوباوية والمثالية والإيثارية. هي تجربة فلسطينية بنيت على التبرع والعمل الطوعي، ولم تحول عناصرها إلى موظفين حد الارتزاق من الثورة. كانت تقيم حوارا وصلات مع جميع القوى الاجتماعية والسياسية، مجموعات وأفرادا في كل مكان ترابط فيه، وتبادر إلى التعرف والاتصال بمختلف الرموز الثقافية والاجتماعية والدينية والفاعليات والشباب، مدركة أنها من النسيج المجتمعي المحيط بها ملتزمة بالمحافظة عليه والنهوض به. هم مجموعات من الطلبة الفلسطينيين والعرب الذين تعلموا جميعا الحرب بالحرب واكتسبوا من المعارك والدورات المحلية خبرتهم، لم يكن أحد منهم خريج كلية عسكرية، ولا معهد عسكري، إلا قلة لا تتجاوز أصابع اليدين.

كان للكتيبة دور مميز في التطورات التي شهدها لبنان بين مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى “الخروج” من لبنان 1982. ولقد أثبتت أنها أكثر من تجربة عسكرية، إذ كانت مساحة لسجال الأفكار وتفاعلها من اليسار إلى اليمين، وأكثر من كونها تجربة فلسطينية إذ فيها لبنانيون، من جميع الطوائف، وعرب وغير عرب. كانت لديهم مكتبة متنقلة في شاحنة، تذهب إلى القواعد لإعارة الكتب، وكانت لديهم جرائد حائط في القواعد وعشرات من الملصقات الكرتونية التي يكتبها المقاتلون في سياق الاهتمام بعملية التثقيف والمراجعة والنقد والنقد الذاتي وتقدير الموقف السياسي والعسكري. ولقد وضع المقاتلون “دليلهم” في كتاب “أفكار ثورية في ممارسة القتال” واشتمل على عناوين من مثل: “ما هي أفكارنا الحقيقية؟”، تكريس حياتنا من أجل الشعب والثورة”، الموقف الأخلاقي”، الجرأة على النضال ضد الأخطاء والنواقص”، “الخط السياسي والتماسك”، “ليس السلاح هو العامل الحاسم”، “لنهتم بالدراسة”. لقد ارتبط البرنامج التثقيفي ارتباطا وثيقا بالممارسة العملية، بما جعل رئيس الأركان الصهيوني (مردخاي غور) في اجتياح 1978، يعترف: “الوحدات التي واجهتنا في بنت جبيل ومارون الراس تختلف عن جميع الوحدات التي واجهناها سابقا… لقد وجدنا في هذه المواقع نشرات تثقيفية ودروسا مستفادة واستخلاص تجارب”، واستنتج (غور) قائلا: نحن نواجه نوعية مختلفة من المقاتلين”.

بيت القصيد في تجربة “كتيبة الجرمق” أن العمل الفدائي الفلسطيني لو كان على منوالها (التركيز أكثر على المسلكية الثورية وتطوير الذات وبناء المقاتل الفدائي المثقف) لما أحزننا حال معظم الفصائل اليوم. ومبكرا، خشي الاحتلال الصهيوني سلاح الثقافة، فاغتال كبار المثقفين الثوريين من أمثال غسان كنفاني، وكمال ناصر، وماجد أبو شرار، وباسل الكبيسي، وحنا ميخائيل وغيرهم كثيرون.