لماذا ينزرع الفلسطينيون في تراب وطنهم؟
ليست الآلة الدعائية الإعلامية الصهيونية وحدها هي التي تروج بأن أغلب الفلسطينيين باعوا أرضهم إلى اليهود، وخرجوا منها طواعية أو امتثالا لتعليمات قادتهم العرب و/ أو ليؤسسوا تجارة أو استثمارا في دولة أخرى نزحوا إليها. فهناك بعض العرب وغيرهم ممن تأثروا ببعض بنود هذه الدعاية، وبالتالي جاءت أصوات التشكيك بالفلسطينيين وبعدالة القضية الفلسطينية من طرف ذلك البعض على شكل صدى للدعايات الصهيونية. والأدلة على عدم خروج الفلسطينيين من أرضهم بمحض إرادتهم، أو بإعلانات من الدول العربية، أدلة عديدة وتعززها وثائق/ دراسات تنفي مثل هكذا تخرصات! هذا رغم ما اقترفته العصابات الصهيونية التي طردت عام 1948 أهالي 530 مدينة وبلدة في فلسطين، بالإضافة إلى أهالي 662 ضيعة وقرية صغيرة. وهذه كانت أكبر عملية تطهير عرقي مخطط لها في التاريخ الحديث.
أول حقائق الإنزراع الفلسطيني فقد سجله (المؤرخون الإسرائيليون الجدد) من واقع الوثائق الصهيونية/ الإسرائيلية نفسها – وأكدوا بأن “89% من القرى طرد أهلها بأعمال عسكرية صهيونية مباشرة وأن 10% من القرى طرد أهلها بسبب الحرب النفسية و1% من القرى فقط تركوا ديارهم طوعاً”. وطالما نحن نتحدث عن الماضي، فإن جزء كبيرا ممن غادر فلسطين في نكبة 1948 لم يخرج، كما يروج، بسبب نداءات من القادة العرب، بل بأمل أن الجيوش العربية الثمانية يومئذ قادرة على تحرير الأرض المحتلة من قبل الجماعات الصهيونية، بمعنى أنهم خرجوا مؤقتا من أرض المعارك التي ستشهد الانتصارات المأمولة بل المفروغ منها للجيوش العربية من جهة، وأساسا نتيجة الخطط العسكرية والمجازر التي قارفتها العصابات العسكرية الصهيونية والتي كشفت عنها/ أكدتها الوثائق الإسرائيلية اللاحقة من جهة ثانية.
ثانيا: وفي السياق، أكد انزراع فلسطينيي 1948 في أرضهم انتماءهم للوطن وللنسيج الفلسطيني العام، وقاوموا ويقاومون بما تيسر لهم من قوة. ولقد تأكد دورهم وتأثيرهم، اللذين لا ينكرهما أحد، بعد أن أدركوا بفطرتهم ووعيهم وتجربتهم، حقيقة المثل الشعبي القائل “الحجر في مطرحه… قنطار”، خاصة بعد أن رأوا بأم عينهم أن من أجبر على الرحيل عن أرضه من الفلسطينيين خسر الكثير مقارنة مع من بقي، رغم معاناتهم جراء العنصرية وسياسة “الأبارتايد” والتطهير العرقي الذي تنتهجه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ 1948.
ثالثا: أثبت فلسطينيو الأراضي المحتلة 1967 و1948، الذين يعانون من المقارفات الصهيونية، أنهم متمسكون بالأرض وعددهم على أرضهم في ازدياد. بل ها هو الجيل الجديد منهم، الذي راهن الإسرائيليون على “أن ينسى أو ييأس”، يجسد مقاومة من نوع جديد رسخت “هبة” تروع الإسرائلييين بحيث أضحى شباب هذا الجيل قادرين على السعي لإيجاد ميزان متبادل للرعب في وجه الممارسات الاحتلالية الإسرائيلية. وقد تحقق هذا الصمود رغم استمرارالحروب والقتل والاضطهاد والتجويع والحصار سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، حتى بات تمسك الشعب وصموده على أرضه معبرا عن نتاج تجربة شعبية تستخلص عبرة تجربة نكبة 48 وحكمة صمود الأهل في “الداخل الفلسطيني” التي أسست للحض على الثبات وعدم ترك الأرض مهما كانت التضحيات والظروف.
رابعا: ومن عوامل الصمود الجواب عن السؤال: إلى أين يخرج الفلسطيني؟!!! فلا مكان يذهب إليه اليوم. فالدول العربية المحيطة لا تريد للفلسطيني أن يرحل عن أرضه أو أن يشكل – برحيله – تهديدا لأمنها الوطني ونسيجها السياسي/ الاجتماعي. فالفلسطيني في مصر يحتاج لتصريح نادر الصدور للدخول أو الخروج، ولبنان فيه ما فيه وبخاصة تجاه المخيمات وأهلها، فيما سورية باتت مكانا للمجازر مع تعذر إمكانية العيش فيها. وإذ يحتاج الفلسطيني إلى تصريح لدخول الأردن كي يتم ضبط الحركة حفاظا على أمن الضفتين، يعيش الفلسطينيون في دول الخليج في حالة قلق على وجودهم. وعليه، لا خيار للفلسطيني سوى بالحفاظ على وطنه والمحافظة على أواصره القانونية معها.
خامسا: في ضوء “الربيع العربي” وما تعرض له من “ثورة مضادة” أدت إلى القتل وترسيخ الفوضى فإن من يغادر بلده العربي مولود ومن لا يغادره مفقود. بل إن مآسي النزوحات العربية من أقطارها تعيدنا بالذاكرة إلى آلام مغادرة الوطن عام 1948، حتى بات يمكن القول أن من بقي على أرضه حاله أفضل. وعديد الفلسطينيين الذين غادروا الوطن عام 1948، يتعرضون للمذابح وإعادة التهجير سواء في لبنان في الحروب الأهلية وكذلك في العراق وسوريا، وها هم اليوم يعيش كثيرهم في مخيمات جديدة على الحدود العربية… وفي بلدان أمريكا اللاتينية!!!
سادسا: التمسك بحق العودة المقدس: حق الفلسطيني، الذي طرد أو خرج من موطنه لأي سبب عام 1948/ 1949، في العودة إلى الديار أو الأرض أو البيت الذي كان يعيش فيه قبل 1948، أسقط الرهان الإسرائيلي: “الكبار يموتون والصغار ينسون”… ولهذا ما زال الفلسطيني متمسكا بحقه في العودة وما زال منتظرا منذ 68 عاما، التفكير الفلسطيني العام، إذن، ليس في اتجاه مغادرة الوطن، وإنما في اتجاه العودة إليه.