في وداع محمد جردانة: “ذهبٌ” هم الذين نحبهم… “ذَهبٌ”

د. أسعد عبد الرحمن

حتى مساء 25/11/2015، كنت متيقنا تماما من أنني قد ذقت طعم الموت بكل تنوعاته ومذاقاته. ففي أوج انغماسي في استقبال ضيوفي لندوة من الندوات الفكرية التي أنظم، “صعقني” صديق حبيب (من حيث لا يدري بالطبع) بإبلاغي رسالة عن عدم استطاعة شقيقه المشاركة في الندوة “لأن الأستاذ محمد جردانة (أبا البشر) قد توفي قبل قليل”!!! ومع صيحتي الاستهجانية الفورية: “موت من”؟، ضربتني شحنة كهربائية بموجة اخترقت قمة حاجبي الأيمن وامتدت إلى نهاية منتصف خدي الأيسر مما أجبرني، فورا، على نزع “نظاراتي” التي “تكهربت” بقوة منطوق ومضمون الخبر الصاعق! ومنذ تلك اللحظة، لحظة المعرفة برحيلك – يا أيها الحبيب (أبا البِشر) – أيقنت بأنني، إطلاقا، لم أذق بعد جميع تنوعات “خبر الموت” أو أتعود على مذاقاتها … كما كنت أعتقد!!

(محمد جردانة – أبو البشر) واقفا رحل! وواقفا عاش! لقد جاء إصراره على الرحيل، دون مرض سابق يشلّ حركته، في حمأة رغبته الجامحة بأن لا “يزعج” أحدا إن هو “ارتمى” على فراش المرض، وبخاصة حرصه الأكيد على عدم “إزعاج” رفيقة دربه الغالية على قلبه (مثلما هي غالية على قلوبنا). كما جاء إصراره ذاك أيضا متناغما مع طبيعة “أبي البِشر”، المثقل تماما بأعباء كبرياء شخصي حميد يمنعه من أن يسقط في وهدة مرض مُقعِد لا مناص من أن يجرح كبرياءه الجميل. وفي المحصلة، نجح “أبو البِشر” في تدبير رحيله الصاعق، وهو منتصب القامة موفّرا على نفسه وعلى أحبائه عقابيل المرض الطويل. فطوبى له إذ تحقق له ما كنا نبوح به لبعضنا (بعيدا عن أسماع أم البِشر وزوجتي) متمنين لأنفسنا موتا خفيفا ظريفا (أي سريعا ولو صاعقا)!

غير أن (أبا البِشر)، إذ نجح في الحصول على نعمة “الموت واقفا”، فإنه لم يستطع  الوصول إلى الدرجة ذاتها من النجاح في التخفيف عن نفسه أو عن الغالين عليه حين اختار أن “يعيش واقفا”! فإصرار (محمد جردانة) على “وقفة العز” التي اختارها في مسيرة حياته (بابتسامته الدائمة وقلبه الكبير وخلقه الرفيع وتفاؤله الأبدي) تسببت له (ولعائلته ولأصدقائه) بآلام الملاحقة والمطاردة والاعتقال حين كان رائدا من روّاد العمل القومي (في “حركة القوميين العرب”) وبالذات على امتداد ضفتي نهر الأردن الصامد، على غرار ما كان عليه –طوال مرحلة سابقة- في بيروت الصابرة المصابرة. قوميا عاش … وقوميا مضى!

ولكم كان (أبو البِشر) حضاريا! ففي البدء، نبعت حضاريته هذه من إيمانه بحضارته العربية، وبالذات في مرحلة أسماها كثيرون مرحلة “شمس العرب تشرق على الغرب”. ثم تطورت حضارية (محمد جردانة) بما انغرس في عقله ونفسه من المؤثرات الحضارية الأخرى وفي الطليعة منها الحضارة الغربية متمثلا منها ما هو “سمين”، ورافضا – بل نابذا-  ما فيها من “غثّ” وسقيم وفاجر، وبالذات حين تاكد له (ولنا) طلاق مبادئ الغرب عن ممارساته في الشأن الإنساني بشكل عام، وفي الشأن السياسي بشكل خاص. وكان هذا “الطلاق” يزعجه بل يقرفه (وكم عاينت ذلك في اللقاءات الحميمية) الأمر الذي جعله يزداد تعلقا بتراثه العربي الإسلامي/المسيحي كما يقرؤه هو وليس كما تراه هذه أو تلك من “المدارس” (الرغائبية الانتقائية غير المتنورة) التي أوغلت في سراديب الماضي وتجاوزت اضواء الحاضر والمستقبل! وقد تجلت حضارية (أبا البشر) في أسلوبه الراقي في الحوار (رغم خلافات في الاجتهاد سخنت فيها الحوارات فيما بيننا لكنها لم تفسد يوما للود قضية، بل هي بالتأكيد عززت الود المتنامي نضوجا). وفي النقاشات، كان (محمد) يضيء بالتفاؤل وهو وسط الظلام الدامس فيضيء نفوسنا … خاصة حين تزورنا النكتة “وتحبك خيوطها” فتراه يقهقه من أعماق … أعماق قلبه. آه، يا أيها الغالي (أبا البِشر) كم نفتقد الآن كل ذلك! نفتقد كل ذلك … ونفتقدك أنت تحديدا … فأنت، أصلا، “النبع” وكل ما غمرتنا به من حبور وتفاؤل هو “ماء النبع” الذي طالما رويت عطشنا به! ألا بوركت، ألا بوركت!

لقد خاض (أبو البِشر) غمار النضال إلى جانب شقيقه الصديق الحبيب (نزار جردانة): ذلك الرجل المحنّك والضاحك الذي “مدّ لسانه” دوما في وجه الملمات والصعاب. ومعا، ومعهما حبيب ثالث هو الصهر اللاحق (علي منكو) الذي لطالما اسميته “تجسيد الطيبة الآسرة إذ تسير على قدمين”. ومعلوم أن هذا “الثلاثي” الاستثنائي قد خاض، بلا هوادة، معارك “الحلم العربي” ودفعوا ما “استحق” عليهم من “ثمن”! وكيف لا وثلاثتهم قد انتظموا في قيادة الصف الثاني المباشر الذي كان على تواصل دائم مع الصف القيادي الأول في حينه المتشكل من د. جورج حبش (“حكيم الثورة” بعبارات الشهيد ياسر عرفات) والأستاذ هاني الهندي (“زعيم النضال الصامت” كما أُحب أن أسمّيه) مع د. وديع حدّاد (غيفارا فلسطين” وفق الوصف الذي سبق وأطلقته عليه) ود. أحمد الخطيب (المناضل شديد الأدب، شديد اللطف، شديد النقاء) ومعهم الغالين على القلب (د. صلاح عنبتاوي، ود. صبحي غوشة، ومحمد ربيع، ولاحقا عدنان فرج، وأبو علي مصطفى، وحمدي مطر، ومحمود عيسى). وحين رحل هؤلاء الأحبة (باستثناء الأستاذ الهندي ود. غوشة اطال الله في عمرهما) حزّ، كل واحد منهم، جرحه الخاص في ثنايا القلب لكنهم بقوا، في أعماق وجداني ووجدان كثيرين غيري، رموزا للكبرياء الوطني والنقاء النادر والنزاهة المطلقة  وهي تتجلى “في القلوب والجيوب”. ولا تزال صيحة الحبيب محمود درويش تتردد في أسماعي: “ذهب الذين نحبهم … ذهبوا”. وطالما أن “الناس … معادن”، ها انذا استسمح شاعرنا الكبير معدلا: “ذهب” هم الذين نحبهم … “ذهب”!