حيثيات كون مؤسسة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية “أكثر وعيا” من مؤسساتها السياسية
حسب وسائل الاعلام الإسرائيلية، ثمة فجوة كبيرة بين القيادة السياسية والأجهزة الأمنية في فهم الأحداث والوسائل التي ينبغي اتخاذها في مواجهة “هبة ترويع الإسرائيليين” الفلسطينية. فلطالما حذرت قيادات أمنية في الجيش والشرطة والاستخبارات الإسرائيلية قيادتها السياسية من مواصلة طريق التصعيد مع الفلسطينيين مؤكدة أن “كل الخطوات التصعيدية التي أقرتها الحكومة الإسرائيلية لن تحقق أي هدف سوى تحفيز الفلسطينيين أكثر على مواصلة الانتفاضة”. ووفقاً لوثيقة نشرها جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، تبين أن دافع الشباب الفلسطيني إلى التحرك ينبع من “شعور بالاضطهاد الوطني والاقتصادي والشخصي”… وأنه حتى لو تم القضاء على “الهبة” أو تقلصت إلى حد كبير، فإنها “ستعود وتتصاعد من جديد، فالأسباب التي تدفع الفلسطينيين إلى إعادة الاحتجاجات من جديد لم تتغير: الشعور بالإحباط واليأس، وخيبة أمل من السلطة الفلسطينية، والرغبة أساسا في مواجهة إسرائيل”. لكن الأكثر إقلاقا لدى أجهزة الاستخبارات، بحسب الوثيقة، كون “التفاهمات التي سادت في العقد الأخير بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، وسمحت بوضع أمني مستقر نسبيا، قد تآكلت ومن المشكوك أن يتمكن الطرفان من إعادة ترميمها إلى سابق عهدها”.
من جانبه، أبلغ رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية اللواء (هرتسي هليفي) حكومته: “أن أحد أسباب (الارهاب) الحالي هو الشعور بالغضب والاحباط لدى الفلسطينيين، خصوصاً بين أبناء الجيل الشاب الذين يشعرون بأنهم لم يعد لديهم ما يخسرونه”. أما (عاموس هرئيل) محلل الشؤون الأمنية والعسكرية في صحيفة “هآرتس”، وهو المقرب جدا من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية فيقول: “نظراً إلى أن أغلبية (المخربين)، بحسب إجماع الاستخبارات العسكرية والشاباك ومنسق الأنشطة في المناطق، من الشبان الذين يتحركون كأفراد وليسوا تابعين إلى تنظيمات ولا سوابق أمنية لهم، فإن الأساليب التقليدية لإحباط الهجمات (من خلال استخدام مصادر استخباراتية بشرية أو من خلال التنصت) أقل فاعلية”. ويفسر قائلا: “مسألة عدم اعادة جثامين منفذي العمليات مثلا موضع خلاف شديد. فالجزء الأكبر من الذين هم على صلة بالموضوع وبينهم وزير الدفاع موشيه يعلون وكبار المسؤولين في الجيش، يعارضون الفكرة بشدة ولا يجدون فيها أي فائدة مع أن جزءاً من أعمال العنف المستمر في الخليل سببه غضب فلسطيني جراء عدم اعادة عشرات جثامين من سكان المدينة”.
وفي مقال لافت استخلص المعلق العسكري لصحيفة “إسرائيل اليوم” (يوآف ليمور): “في الجهاز الأمني مقتنعون أن تغيير التوجه هو مصلحة إسرائيلية واضحة: إعطاء الفلسطينيين العمل والاحترام والأمل”. وفي السياق، يعتقد رئيس أركان الجيش (غادي آيزنكوط) أن “معاقبة العمال الفلسطينيين، ومنعهم من إعالة عائلاتهم، هو خطأ خطير جدا، لأن الخروج للعمل في داخل إسرائيل من شأنه أن يشكل عاملاً لاجما للفلسطينيين”. بل إن قيادة الجيش تقدمت مؤخرا بسلسلة توصيات إلى المستوى السياسي تقضي بمنح الفلسطينيين تسهيلات في المجالات الأمنية والاقتصادية والمدنية، تشمل الإفراج عن بضع عشرات من الأسرى الأمنيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية (ولا سيما من رجال حركة فتح) وزيادة عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل والسماح بأعمال بناء في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة إسرائيلية كاملة من الناحيتين الإدارية والأمنية (مناطق ج)، إلا أن المجلس الوزاري المصغر – لاعتبارات المزايدة الإنتهازية – رفض هذه التوصيات.
في مقال متمم عنوانه: “اتساع الفجوة بين القيادة السياسية والأمنية في إسرائيل”، كتب أحد أهم الصحفيين ومحللي الأمن القومي الإسرائيلي (يوسي ميلمان) يقول: “يدور الحديث عن حقل ألغام لا يريدون في الجيش الاسرائيلي الدخول اليه. في الدولة الديمقراطية، تكون القيادة العسكرية تابعة للسياسية، وعليها أن تقبل إمرتها بلا تحفظ. ولكن القيادة الأمنية هي أيضا قيادة مهنية، يفترض بها رفع الاقتراحات والتوصيات للقيادة السياسية، وفي الجيش الاسرائيلي أيضا يعرفون أنه في وقت الأزمة فان القيادة السياسية ستتنكر لمسؤوليتها وتلقي بها اليها”. ونقل (ميلمان) عن ضابط كبير دون ذكر اسمه القول: “لا استبعد اذا استمر التصعيد أن ينتقل الى الفوضى، اي فقدان السيطرة التام من السلطة الفلسطينية وفقدان صلاحيتها في نظر السكان. ومن هنا فالطريق قصير لمرحلة نرى فيها افكار “داعش” تنال التأييد المتزايد في أوساط الجمهور الفلسطيني”، وهذا ما أكدت عليه قبل أيام (هيلاري كلينتون) المرشحة للرئاسة الأمريكية!
طبعا، لسنا في معرض الدفاع عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ولكن المقصود هو التأكيد على نجاح “هبة ترويع الإسرائيليين” في خلق هوة تتسع يوميا بين حكومة يمينية عنصرية فاشية ومؤسسات أمنية فاشية أيضا، لكنها لطالما كانت “مؤسسية الطابع” و”عاقلة التفكير”، و”محترمة جدا” في مختلف الأوساط الإسرائيلية بحيث ترى “أخطار” تحول “الهبة” إلى انتفاضة. إذن، الأجهزة الأمنية، ولنقل تجاوزا، “أكثر وعيا”، كونها تبحث عن حلول سياسية، فيما المؤسسات السياسية الغارقة بالسعار اليميني هي “أقل وعيا” وأكثر انتهازية كونها تبحث عن حلول عسكرية.