أحمد الشقيري: استحضار لبعض المآثر
هرج ومرج كبيران يدوران اليوم حول قانونية عقد جلسة المجلس الوطني الفلسطيني، والكيفية التي يجب أن يخرج بها: دورة عادية أم غير عادية؟! انتخاب لجنة تنفيذية جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية بالكامل أم استكمال عضوية “التنفيذية” عبر ملء شواغر المستقيلين، وذلك في ظل معيقات إسرائيلية وفلسطينية عديدة تواجهها الدعوة. وفي الأثناء، يتفق الجميع على أن “منظمة التحرير” بحاجة إلى تصويب مسيرتها الوطنية قبل أي شيء، ويتحدث البعض عن إمكانية – ولو ضئيلة – نجاح “المجلس الوطني” في دورته يومي 14/15 أيلول/ سبتمبر 2015 في تحقيق “إجماع ما” حول “خطة وطنية جديدة” و”استعادة دور المؤسسات” لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني المتدهور أساسا بفعل سياسات ومقارفات الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الوضع الحرج “للمنظمة” يستحضر شخص وفكر المجاهد أحمد الشقيري. فقبل قيام “منظمة التحرير” في العام 1964 لم يكن لفلسطين من وجود سوى “الهيئة العربية العليا”، و”حكومة عموم فلسطين” الممثلة في الجامعة العربية بالمرحوم أحمد حلمي عبد الباقي باشا. وكانت كل دولة عربية تتعامل مع القضية الفلسطينية من خلال موقف الدول الأخرى من الرموز الفلسطينية. ورغم معارضة دول عربية اختيار الشقيري خلفا لأحمد حلمي الذي توفاه الله في العام 1963، فإأن الشقيري، في أول خطاب له بالجامعة العربية ردا على الرافضين للكيان الفلسطيني، أكد: “الهدف أن يصبح أهل فلسطين قادرين على حمل السلاح لتحرير فلسطين”، رغم أن الدول العربية هدفت من وراء إنشاء “كيان فلسطيني”، وبكلمات الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر: “مواجهة نشاط إسرائيل لتصفية المشكلة الفلسطينية وإضاعة حقوق الشعب الفلسطيني”.
منذ إنشائها وحتى العام 1963، اتخذت الجامعة العربية (589) قرارا يتعلق بفلسطين دون أن تنفذ معظم تلك القرارات. وكاد القرار الذي اتخذه مجلس “الجامعة” بخصوص جولة الشقيري في العواصم العربية “للقيام بالاستشارات مع ممثلي الشعب الفلسطيني والحكومات العربية” أن يصبح واحدا من القرارات غير المنفذة. إلا أن الفضل الأكبر في كل الانجازات اللاحقة يعود للشقيري الذي بادر بتنفيذ القرار (مع تطويره ذاتيا) من جهة، مستثمرا التسهيلات التي قدمتها له الحكومة المصرية من جهة ثانية. ومع صدور البيان الختامي لمؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة في الفترة من 13-16 كانون أول/ يناير 1964، يسجل الشقيري أن قرارات المؤتمر كانت “هزيلة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية”، ويسجل أيضا بأنه “تجاوز الصلاحيات التي أعطيت له” في المؤتمر: “لقد رضيت بهذه الصيغة الهزيلة لأني كنت أريد أن أضع قدمي على أول الطريق وأن يبرز الكيان الفلسطيني كأمر واقع ثم ينمو ويكبر بصورة ذاتية”. ويتابع: “عزمت أن أضع الحكومات العربية والشعب الفلسطيني أمام الأمر الواقع فأدعو إلى مجلس وطني ينعقد في مدينة القدس، لينظر في الميثاق والنظام الأساسي ويعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية وتشترك بعد ذلك في مؤتمر الملوك والرؤساء في الاسكندرية (أيلول/ سبتمبر 1964) باسم منظمة التحرير الفلسطينية لا تحت اسم (ممثل فلسطين في الجامعة العربية)”. وهذا – حقا – ما فعله الرجل.
ثم إن من المآثر الكبرى الأخرى للشقيري (وهو المحامي الذي لا يشق له غبار) قيامه شخصيا بكتابة “النظام الأساسي” و”الميثاق القومي” لمنظمة التحرير، ضاربا عرض الحائط بكل الانتقادات التي وجهت له شخصيا وللكيان الذي يسعى لتأسيسه. ومن ضمن نصوص عديدة كفلت قوة واستقلالية الأفراد والهيئات المختلفة لمنظمة التحرير جاءت المادة الخامسة من مواد النظام الأساسي للمجلس الوطني الفلسطيني الذي وضعه الشقيري والتي نصت على أن ينتخب أعضاء “المجلس الوطني” عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني، ثم ينتخب “المجلس” من بين أعضائه “اللجنة التنفيذية” التي ينتخب أعضاؤها، بدورهم، رئيس “المنظمة”، وهو أمر يشكل بحد ذاته، نقطة قانونية بارزة تحسب للمرحوم الشقيري ذلك أن هذا البند لا يعطي رئيس “المنظمة” أفضلية على أعضاء “اللجنة التنفيذية”، فهم من انتخبوه، وبذلك لا يتمكن أي رئيس من إضعافهم ما يمنع التفرد في القرار والديكتاتورية في التعامل، فهم زملاء للرئيس وليسوا وزراء عنده وكل منهم يستطيع طرح رأيه دون ضغوط أو تهديد بالإقالة. وكم حاول المرحوم الشهيد ياسر عرفات أن يجعل انتخابه مباشرا من قبل “المجلس الوطني” لكن النظام الأساسي هو الذي ساد.
مع تغير الأحوال وكبر الأهوال، ما أحوجنا اليوم إلى إعادة ترتيب “منظمة التحرير” على مستوى الهيئات التشريعية والقيادة التنفيذية، وعلى قاعدة وحدة وطنية صلبة لمجموع المكونات (الفصائل والحركات) الفلسطينية، فالانقسام الوطني الراهن يزيد من تآكل شرعية “المنظمة”.