خواطر سياسية في رحلة سياحية

قد قيل الكثير في فوائد السفر، ومشقّاته ومتعه على حد سواء. غير أن من أهم الفوائد، في الماضي والحاضر، حقيقة كونك تطلع – عن كثب – على “مشاعر” و”عواطف” الناس في كل بلد تحط فيه عصا الترحال. وخارج نطاق “المشاعر” و”العواطف”، فإن المرء – في عصرنا الحالي – ما عاد بحاجة للتنقل كي يجني معارف معينة، أو يحصد خبرات بعينها، ذلك أن ثورة العلم والتكنولوجيا وما وفّرته من مواقع ومن وسائط التفاعل الجماهيري، أغنت الكثيرين عن مغادرة أوطانهم، بل عن مغادرة بيوتهم أو مكاتبهم، أو حتى مغادرة كراسيهم التي تضمهم وأجهزتهم القادرة على ايصالهم إلى العالم تماما مثلما هي قادرة على إيصال العالم إليهم.

أول الخواطر الرئيسية الثلاث التي رغبت مشاركتكم فيها والمستقاة من رحلة بحرية (هي الأكثر متعة والأقل تكلفة إلى “دول البلطيق”) كون المرء يندهش من حسن المشاعر التي يتلقاها العربي/ الفلسطيني. فرغم تزامن بدء الرحلة مع يوم “مذبحة تونس”، ورغم أن “حصة الأسد” في تلك المذبحة (كما في الباخرة) هي من نصيب مواطني المملكة المتحدة التي انطلقت منها الرحلة، فإن المشاركين الذين بلغ عددهم (3600) إضافة إلى العاملين على متن الباخرة وعددهم (1150) كانت عواطفهم ومشاعرهم إما حيادية أو ايجابية. فهي لم تخلط ما بين الارهابيين الاسلامويين المستعربين من جهة، وبيننا من جهة ثانية. بل إن الإشارة إلى انتمائنا العربي/ الفلسطيني كان محطّ قبول، بل تعاطف أو إعجاب. وكان في هذا تأكيد لما يلاحظه المرء منا عند مقارنة الماضي بالحاضر. فقبل ربع قرن مثلا، كانت “المسموعات” عن الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، إما جاهلة أو غير متعاطفة أو حيادية في أحسن الأحوال. أما الآن، فلا شك بأن المعرفة، والقبول حد التعاطف والاعجاب، بالفلسطيني وقضيته هي الحالة الأكثر وضوحاً وترسخاً.

وثاني الخواطر تتلخص في أن المجتمعات الحرة/ العلمانية/ الديمقراطية المتمتعة بالمأسسة (خاصة في الدنمارك والسويد والنرويج وفنلندا) قادرة – ضمن أمور أخرى – على تعزيز قيم وممارسات “الانتاجية” وتوفير العيش الكريم لمواطنيها. والحكومات، “في ذلك العالم”، حين تجني الضرائب المرتفعة (التي تتراوح ما بين 25% – 40%) تعيد إلى مواطنيها كل قرش من تلك الضرائب وعوائد الانتاج على شكل بنى تحتية راقية وضمان صحي/ تعليمي لا سابق له. ففي تلك الأقطار، نجد أن التعليم – في مختلف مراحله – حق مصان وبالمجان (مع وجبات مجانية للأطفال) “من المهد إلى اللحد”، اللهم باستثناء تكاليف بسيطة (بسيطة للغاية) تقع على كاهل طلبة المرحلة الثانوية والجامعية وبالذات في موضوع شراء الكتب. وهنا يجدر التنويه إلى أن أولوية مقعد التعليم الجامعي هي حسب الأداء الأكاديمي فحسب، ولا “يتدخل” في ضمان المقعد كبير أو صغير، وهو مصان – كما معظم أوجه الحياة – ضد المحسوبية والفساد. والحال مشابه على صعيد الضمان الصحي، بل إن الزوجة عند الانجاب تتمتع بإجازة أمومة تبلغ (18) شهراً يمكن أن يتقاسمها الأب مع الأم، والتفكير يتجه إلى جعلها (24) شهراً.

أما ثالث الخواطر فتتجلى في أن تلك البلدان شهدت مختلف أنواع الحروب (الإقليمية والإثنية) على نحو يذكّرنا بواقعنا الراهن. كما أنها شهدت صراع معسكر القوى الدينية والقوى غير الدينية المنفتحة على الاجتهاد والعصرنة في جانب، ضد معسكر الكنيسة وسطوتها السياسية وفسادها في جانب ثان. وكانت الحصيلة نجاح قوى المعسكر الأول في المعركة، الأمر الذي أسفر عن الإنجازات المتجلية في مضامين الخاطرة الثانية الوارد ذكرها أعلاه. فهل نسحب – بقوة التفاؤل المستند إلى تجارب الآخرين – نتائج هذه الخواطر على واقعنا الراهن بحيث نتخلص من الحروب العبثية المستندة إلى “المنطق الأعوج” الذي يستعيد حروب (داحس والغبراء) ونتخلى عن الأفكار والممارسات القاتلة التي تسيّس الدين و/ أو تدّين السياسة، بما يكفل انتقالنا إلى عصر الحرية والتنوير والانتاج والمأسسة فيصبح الوطن “جنة” كونه يستند إلى القاعدة الذهبية بل “الملائكية”: الناس ولدتهم أمهاتهم أحراراً ومتساوين كأسنان المشط، في حقوق مواطنة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهل نحلم أن نرى ذلك في أوطاننا قريبا أو مستقبلا؟ ولم لا، فالأحلام تدور في الرؤوس وغالبا في الخفاء، بما يسمح لها أن تترعرع بعيدا عن رصاص، أو سكاكين، أو سجون قوى القمع السائدة في مجتمعاتنا.