في فصل الدين عن السياسة: لماذا فشلنا ونجح الغرب؟!!
أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة من القضايا المسلَّم بها في الفكر السياسي الغربي، ومن ثم في الفكر السياسي العالمي الدائر راهنا في فلك الحضارة الغربية. كما أصبح فصل الدين عن الدولة أمراً لازماً في الدولة الحديثة وفي الأساس منها: المواطنة. فما دام المواطنون في الدولة الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد أو إثنية واحدة، بل تتقاسمهم أديان متعددة، فإن التزام الدولة بدين واحد أو بإثنية واحدة فيه افتئات على المكونات الأخرى.
يقول الفيلسوف العربي المسلم (ابن رشد): “إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني”. هذه هي الظلامية التي تعيشها كيانات إسلاموية اليوم في العالمين العربي والإسلامي. وهذا الحال، يشبه إلى حد كبير الظلامية التي عاشتها القارة الأوروبية في العصور الوسطى وكان من نتائجها وقوع “الثورة المجيدة” في إنجلترا في العام 1688 ومن ثم “الثورة الفرنسية” في العام 1789 التي مأسست الفصل التام بين الدين والسياسة، حتى باتت نموذجا تجذر واستقر في الوعي الجمعي الغربي وكياناته السياسية. فبالعودة إلى الوراء، هيمن قادة الكنيسة كليا على القارة الأوروبية وكانت القوانين والأدوار السياسية للحكومة والدولة في أيديهم، وكذلك حياة الناس العاديين إذ كانت شؤونهم، من الولادة حتى الموت، في يد الكنيسة التي احتفظت بكل الموارد والقوة والنفوذ. كما أن هذه الهيمنة ارتبطت بممارسة أشد أنواع التعذيب والقتل والتنكيل ضد معارضي وصايتها ومعتقداتها. وقد فرضت الكنيسة قيمها ورفضت الرأي الآخر، بل كفرت كل من طرح موقفا مغايرا، ما أدى إلى العنف المجتمعي، متمثلا في “ثورات” أوروبية على القيود الكنسية التقليدية مقرونة بالدخول في مرحلة البحث العلمي والتقنيات والكشوفات الجغرافية التي فتحت بوابة السيطرة على العالمين القديم والجديد. ومع ضعف الكنيسة، شكل فصل الدين عن السياسة عنوانا مهما وأساسيا لعملية التطور والتنمية والتحديث في أوروبا، فبدأ عهد التنوير والمساواة في الحقوق والمواطنة، والحرية. فلماذا فشلنا، ونجح الغرب، في هذا الصدد؟!!!
- أصرت معظم الجماعات الدينية السياسية على استغلال الدين الاسلامي عبر مزجه بالسياسة لتحقيق مصالحها الحزبية وحتى الشخصية. كما حاولت احتكار تفسير الدين حد تكفير الرأي الآخر، ما ساعد على فشل هذه الجماعات في بناء إجماع وطني رغم الإدراك أن الشعوب اختارت هذه الجماعات الدينية السياسية بحثا عن حلول لمشاكل رسختها أنظمة عربية أمنية مستبدة مع مطلع عهد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، وفشل الحركات المدنية في استلام الحكم، لتطبيق برامجها في احترام حقوق الإنسان، ومناهضة الظلم الاجتماعي، ومعالجة المشكلات الاقتصادية. وبذلك فشلت الجماعات الدينية السياسية في طرح أجوبة على أبسط الأسئلة المتعلقة بالحكم.
- لم تفصل الجماعات الدينية السياسية في أنشطتها بين الجانبين الدعوي/ الاجتماعي، والسياسي. كما أن خطابها السياسي اتسم، وما زال، بفرض وصايته “الدينية” على المجتمع، بحيث “احتكرت” هذه الجماعات الحديث باسم الدين، ساعية لفرض رؤيتها تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، لا تقبل رأيا دينيا أو علمانيا مخالفا لها، مع إصرار على تنزيه نفسها من الخطأ مقرونا برفض الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى.
- هذه الجماعات، في العالمين العربي والإسلامي، سعت خلال السنوات الأخيرة، لتوظيف الدين خدمة لأهدافها وطموحاتها السياسية والشخصية، فعمقت الصلة بين الديني والدنيوي على قاعدة “ما هو ديني في الإسلام هو سياسي بشكل واضح، وما هو سياسي هو ديني بشكل عميق”، في محاولة لاستنساخ تجربة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، بعيدا عن التجديد. وهكذا، أصبح الدين والتدين مدخلا للمشاركة في الحياة السياسية، مع الإيمان بأن العنف هو أفضل طريقة لإحلال شرع الله في الأرض، وأنه لا ضير إذا قتل في الصراع من أجل ذلك جموع من المسلمين.
باسناد صحيح، روي عن الرسول العربي قوله: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة”. أما البرهان الساطع على قيمة الاجتهاد وإعمال العقل في تطور الحياة وحرص الإسلام على ذلك كون عدد الآيات القرآنية الدالة على التفكير والاجتهاد وما يتعلق بهما من عبارات التعقل والتفقه والتدبر والتأمل والتذكر يبلغ نحو 300 آية. ولكن المأساة، أن دعاة الدولة الدينية يقحمون الدين في غير مجاله، ولذلك يضرون به وبالدولة، ويمضون بعيدا عن الدولة المدنية الحديثة، دولة الخدمات والأمن والأمان، الدولة التي تنظر لشعبها نظرة إنسانية أي تكون لجميع طوائف المجتمع، عكس الدولة الدينية العنصرية التي نراها اليوم ممثلة في الدولة الصهيونية… “رائدة” هذا النوع من الدول الدينية في منطقتنا!