أحمد الشقيري: قوة البصر… والبصيرة

في مؤتمر القمة العربي عام 1964 الذي دعا إليه يومها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، تم الإعلان عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتعبر عن إرادة شعب فلسطين، ولتكون هيئة تطالب بحقوقه وتقرير مصيره. وقد كلف المؤتمر ممثل فلسطين، المجاهد الراحل أحمد الشقيري، بوضع مشروعي “الميثاق القومي” و”النظام الأساسي” للمنظمة الوليدة المنشودة. كما تقرر الدعوة إلى مؤتمر فلسطيني عام، سرعان ما عقد في القدس بين 28 آذار/ مارس و2 حزيران/ يونيو من عام 1964، وتقرر فورا تسميته: “المجلس الوطني الفلسطيني” الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي بدوره صادق على “الميثاق القومي” للمنظمة الذي جاء فيه: “يكون للفلسطينيين ثلاثة شعارات: الوحدة الوطنية، والتعبئة القومية، والتحرير. وبعد أن يتم تحرير الوطن، يختار الشعب الفلسطيني لحياته العامة ما يشاء من النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.

اللافت أن المناضل أحمد الشقيري، وضع شرطي “الوحدة الوطنية” و”التعبئة القومية” قبل التحرير. والبند الثاني، “التعبئة القومية”، تعيش اليوم حالة مأساوية في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن تراجعت القضية الفلسطينية بل سقطت من أجندات دول عربية عدة، خاصة في ظل تحول دول عربية إلى مسرح للإرهاب الإسلاموي فيما بات هم الدول الأخرى تحصين نفسها ومجتمعاتها من هذا الإرهاب. فالشرق الأوسط ملهي بحروبه وفق سيناريوهات على الأرض مخيفة، في ظل تداخل “وطنيات” مع أيادي إقليمية ودولية بعضها ظاهرة والأخرى خفية. وهذا الواقع، فصّله وبيّنه بصورة جميلة/ قبيحة الكاتب الإسرائيلي (رؤوبين باركو) (الذي لم يوفر كذلك انتقاده للدولة الصهيونية) بقوله: “رياح سيئة تهب على الشرق الاوسط. تسونامي ضخم من العنف والإرهاب يحمل بقايا دول عربية تحطمت، وأمام الحطام تسبح سفينة إسرائيل. لا رياح لساريتها ولا فحم لمحركاتها. ربابينها متخاصمون مع بعضهم البعض ويتجاهلون نداءات الاغاثة ويهتمون بالتدمير الذاتي”. بالمقابل وللمفارقة، هناك “تعبئة دولية” حقيقية تأتي نصرة للقضية الفلسطينية في كل المحافل والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، عبر دعم ومساندة حق العودة لجميع اللاجئين، والحق في تحرير الأرض وتقرير المصير وإقامة الدولة على كامل الأرض وعاصمتها القدس، وفضح أهداف الاحتلال التوسعية/ الاستعمارية/ “الاستيطانية”.

أما “الوحدة الوطنية”، البند الأول في شعار الشقيري/ شعار “المنظمة”، فحدث ولا حرج. فالقضية الفلسطينية، والحال الفلسطيني، اليوم يعيشان وضعا مأساويا ينذر بالمزيد من المعاناة والموت. مستنقع من الرمال المتحركة لا يعلم الشعب الفلسطيني إلى أي قعر ستسحبه، في ظل انقسام فلسطيني (أيديولوجي، سياسي، تنظيمي، عسكري، وجغرافي) تهدم معاوله حلم تحرير فلسطين، عبر ترسيخ فكرة وواقع كيانين سياسيين: الأول في الضفة الغربية، والثاني في قطاع غزة، فيما العدو الصهيوني يستغل هذا الانقسام فيضيف جهده إلى “جهودنا” في عدم السماح للطرفين بالاتفاق، بينما يستمر تهويد القدس وبناء المستعمرات/ “المستوطنات” وجدار الفصل العنصري مع كل ما يواكب ذلك من مقارفات القتل، والجرح، والسجن… الخ في أوساط شعبنا.

لا أحد ينكر أن هناك خلافات حادة بين أبرز حركتين (“فتح” و”حماس”) تتعلق بمصير الشعب الفلسطيني، حيث يرى كل طرف منهما أن تصوره للحل هو الأصح وهو الذي يتمتع برضا وقبول الشعب الفلسطيني، وحيث يرى كل طرف أنه الأقدر على قيادة مسيرة الشعب نحو تحقيق حقوقه الوطنية. فمنذ الحسم/ الإنقلاب(!!!) العسكري في غزة، ومع تغييب “طبيعي” لدور المجلس التشريعي، صدرت قرارات ومراسيم فلسطينية من هنا وهناك ساهمت في تعميق حالة الانقسام وتكريس واقع الفصل بين الضفة والقطاع بغض النظر عن الجدل حول مدى شرعيتها أو قانونيتها. وبذلك لن تكون هناك وحدة وطنية أو حتى حوار، رغم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، في ظل إجراءات أحادية الجانب من هنا أو هناك، فالأمر سيوسع رقعة الخلافات ويعمق حال الانقسام ويكرس الفصل… إلى الأبد!!

في ظل هذه الظروف، نتذكر المجاهد أحمد الشقيري، المناضل الذي ببعد بصره وعمق بصيرته وإدراكه للأولويات، ركز على “الوحدة الوطنية” التي باتت اليوم مجرد تعبير يستغل أبشع استغلال عبر تصريحات وبيانات تؤكد عليها قيادات فلسطينية في النهار وتعمل ضدها في الليل. والواقع أن إنجاز “الوحدة الوطنية”، مهما كلّف الأمر، هو السبيل الوحيد للشعب الفلسطيني. وهذا لن يحصل سوى بسرعة التوصل إلى توافق وإجماع وطني على قاعدة الثوابت الوطنية. عندها فقط نكون قادرين على ترسيخ الوحدة الوطنية، وترسيخ الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف لشعبنا. رحم الله المناضل أحمد الشقيري، الذي بحث عن وضع فلسطين على خارطة الأحداث ومواجهة المشروع الصهيوني، وحاول ثم حاول دون أن تسمح له الخطة/ “المؤامرة” الكبرى بتحقيق أحلامه وإنجاز مشروعه الوطني الكبير. فهل نأمل باستعادة الأولوية (الوحدة الوطنية) كما دعا إليها المجاهد الشقيري… أم نستمر في دفع قضيتنا من حضيض إلى حضيض؟!!!