الفقر في إسرائيل: الحقائق والأسباب

في مؤتمرات هرتسليا الأمنية، تجتمع – منذ سنوات – النخب الإسرائيلية في الحكومة والجيش والمخابرات والجامعات ورجال الأعمال وضيوف من المختصين الأجانب من الولايات المتحدة وأوروبا. وتباعا، حذر باحثون إسرائيليون من خطورة تفكك اللحمة داخل المجتمع الإسرائيلي جراء تفاقم الفوارق بين طبقاته وتلاشي خدمات الدولة، بسبب السياسات الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي يقودها رئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) سواء منذ شغل منصب وزير المالية قبل أكثر من عقد، مرورا برئاسته للحكومة. ويعتبر هؤلاء الباحثون أن هذه المشاكل الداخلية أشد خطرا على إسرائيل من قنبلة إيران النووية ومن الجيوش العربية لأنها تفقد الإسرائيليين مناعتهم المعنوية.

مع نهاية 2014، كشف تقرير إسرائيلي غير حكومي، أن حجم الفقر في المجتمع الصهيوني أكبر من المعطيات الرسمية، وأن كل طفل ثالث فيه فقير. ويفيد تقرير مؤسسة “التأمين الوطنية” الصادر عن منظمة اجتماعية باسم “لاتيت” الإسرائيلية المعنية بشؤون الرفاه الاجتماعي والفقر: “أن هناك نحو 2.5 مليون فقير في إسرائيل من ضمنهم 932 ألف طفل أي ما يمثل 35% من أطفال إسرائيل”. كما يكشف أن “كل طفل رابع في ذلك المجتمع يذهب للنوم جائعا عدة مرات في الشهر”. وأضاف التقرير أنه “يوجد في اسرائيل 60 الف عائلة تعيش على معونات غذائية تقدمها جمعيات. ومع ذلك، فإن 25% من اطفال تلك العائلات ينامون جوعى عدة مرات في كل شهر، و22% من أولادهم يذهبون الى المدرسة من دون أن يأخذوا طعاماً معهم”. وخلص التقرير إلى أن “10% من العائلات التي تحصل على معونات غذائية اضطروا إلى المبيت في مكان عام أو في الشارع، و54% من تلك العائلات تم قطع التيار الكهربائي عن بيوتها بسبب عدم تسديد فاتورة الكهرباء، و63% لم يتمكنوا عدة مرات من تسديد إيجار الشقة، و36% عبروا عن تخوفهم من اضطرارهم لإخلاء مكان سكنهم. وتحدث 72.5% من العائلات عن الاضطرار الى التنازل عن شراء دواء بسبب عدم القدرة على الدفع. كما أكد 94% من المسنين بأن مخصصات الشيخوخة لا تسمح لهم بالعيش بكرامة وشراء احتياجات أساسية”.

لقد أصبح التقرير مادة سجال انتخابي بين الأحزاب والقيادات السياسية الإسرائيلية، حيث حول منافسو (بنيامين نتنياهو) أرقام اتساع نطاق الفقر الى لائحة اتهام ضد سياسته الاقتصادية. فقد أشار “حزب العمل” إلى أن (نتنياهو) “في الوقت الذي كان فيه مشغولاً بتخويف الجمهور من تهديدات خارجية، تنامى تهديد استراتيجي داخلي، بصورة 2,5 مليون فقير، وهو ما يؤشر إلى فشل مدوّ للسياسة الاقتصادية لنتنياهو”. أما حزب “ميرتس” اليساري فأعلن: “لقد فشلت حكومة نتنياهو في العناية بطبقات المجتمع الإسرائيلي البسيطة وبغلاء المعيشة وتدهور الحالة الاقتصادية لعشرات الأسر التي تعيش تحت خط الفقر”. ومن جهته، هاجم اليميني (الليكودي حتى وقت قريب) رئيس حزب “كلنا” (موشيه كحلون) رئيس الحكومة (نتنياهو)، مركزا على تأكيد “التقرير” بأن “الفقر في اسرائيل يتفاقم والفجوات تكبر وعدم المساواة تأخذ أبعاداً لا سابق لها”. كذلك، رأى رئيس الدولة السابق (شمعون بيريز) أن التقرير هو “لائحة اتهام خطيرة ضد أنفسنا، ومن غير الممكن تأجيل أو الاستخفاف بمعطياته”، مضيفا: “كما عرفنا كيف نجمع أموالاً للأمن والحرب، من واجبنا تجنيد أموال لمعالجة الفقر”.

في مؤتمر “سديروت” الاقتصادي الاجتماعي، نهاية تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي، تبين أن “إسرائيل تحتل المرتبة الرابعة من ناحية انتشار الفقر في دول منظمة التعاون والتنمية الدولية، وأن الفقر يتسبب في حالة إحباط وغضب واغتراب لدى شرائح الفقراء”. وكشف استطلاع رأي عرضت نتائجه في المؤتمر عن تفشي الفقر واتساع الفوارق الطبقية بحيث أن “واحدا من بين كل أربعة مستطلعين يقول إنه يعرف على الأقل شخصا واحدا عن كثب فكّر بالانتحار خلال العام المنصرم بسبب حالة الضيق الاقتصادي”. كما أن ثلث المستطلعين “يحسون بمشاعر الإقصاء من قبل إسرائيليين آخرين حالتهم المادية جيدة، بينما يشعر 82% أن الدولة لا تكترث بالفقراء. وقد علق الحاخام (يحيئيل إكشطاين) مدير عام صندوق “الصداقة اليهودي” في المؤتمر المذكور إنه “ينبغي على إسرائيل أن تخجل من نفسها. مخجل أن أشعر خلال تجوالي في إسرائيل وكأنني في أوكرانيا، حيث أحضر الغذاء لمسنين أجدهم بلا قدرة على شراء ملابس وليس لديهم دواء أو إمكانية لتدفئة منازلهم من البرد”.

وعن جذر المشكلة، وإضافة إلى السياسات المالية الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، وضع تقرير “لاتيت” إصبعه على الجرح، رابطا بين حالة الفقر الآخذة بالاتساع في المجتمع الإسرائيلي وبين “إسرائيل العسكرية” مستخلصا أن (الحكومة الجديدة) “ربما تكون الفرصة الأخيرة للحسم فيما اذا كان يتعين شراء دبابة أخرى أو إنقاذ طفل من الفقر، وإذا ما كان علينا الاهتمام بمستقبل المجتمع الاسرائيلي، أو حراسة حدود الدولة فقط”!