مستجدات عن الهجرة اليهودية المعاكسة من إسرائيل

أ.د. أسعد عبد الرحمن

تقول كلمات أغنية رائجة لفرقة إسرائيلية تدعى “شمامل”: “لأجل ماذا نبقى هنا، يسألون في كل مكان؟ يمكننا ركوب أول طائرة وتنفس الصعداء. الجواب قاسٍ وليس سهلاً. الجارة تقطن في لوس انجليس منذ 15 سنة وتمتدح الذهاب بلا ندم… كل عائد من خلف البحار يحدثني كم هو جميل هناك… برلين برلين وإن نسيت يدي اليوم سآتي اليك يا من تنتظرين، يا رائحة اليورو والسلام والنور… جدي وجدتي لم يأتيا إلى إسرائيل بحثا عن الصهيونية فقط بل هرباً من الموت، والآن استوعبا أنها ليست حياة (في إسرائيل)… نفضل البعد على البقاء فقراء… لا هذا هروب أدمغة، وليس هروباً مريحاً. هذا هروب بالأرجل كي يبقى رأسنا مرفوعاً فوق وجه الماء. وحتى أبونا يعقوب هرب إلى مصر حيث أجرة المسكن أقل بثلثين والراتب ضعفان”. هذه الكلمات، للفرقة الغنائية التي أسسها مهاجرون إسرائيليون، تعكس المزاج السائد في أوساط الشباب الإسرائيلي، وتلقي الضوء على دوافع هجرتهم العكسية من “الأرض الموعودة”!

وتحت عنوان “العام المقبل في برلين – أورشليم الجديدة”، نشرت مجلة “ذي إيكونومست” البريطانية تقريراً عن الهجرة العكسية من اسرائيل، مشيرة إلى حملة شعبية يهودية على الفيس بوك بعنوان “الصاعدون إلى برلين” تشجع الإسرائيليين على الهجرة إلى ألمانيا بحثًا عن حياة أفضل. والملفت أنه بعد انطلاق الدعوة بأربعة أيام فقط بلغ عدد زوار “الموقع” مليون إسرائيلي، كما تلقى مسؤولو الحملة – بالفعل – 9300 طلب للهجرة إلى برلين. وقد توجه القائمون على الحملة إلى المستشارة الألمانية (أنغيلا ميركل) بطلب الحصول على آلاف تأشيرات العمل، معلنين نيتهم التوجه لاحقا إلى حكومة إسبانيا وتسريع موضوع الحصول على الجنسية لأكثر من 3 ملايين يهودي – سفاردي (شرقي) إسرائيلي.

لقد أظهر استطلاع للقناة “العاشرة” الإسرائيلية، مؤخرا، أن ما يزيد على نصف مليون إسرائيلي يعتزمون الهجرة بسبب غلاء المعيشة في إسرائيل. كما بين الاستطلاع أن “50% من الإسرائيليين (أعمارهم بين 25 و44 عاماً) يفكرون في الهجرة”. كذلك، تشير تقارير مكتب الإحصاء المركزي أن “نحو 26 ألف إسرائيلي يغادرون إسرائيل كل سنة منذ أربع سنوات، معظمهم من الشباب والأكاديميين ممن يبحثون عن فرص للتعلم والعمل، خاصة في ألمانيا وكندا وأستراليا والولايات المتحدة”. كما كشفت القناة العاشرة، نقلا عن مصادر رسمية، أن هناك “نحو 800 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل، ووجدوا لهم مأوى دائم في دول العالم، معظمهم من الشباب والعلمانيين”.

هذه الأيام، يتكشف القلق المركزي لدى الحركة الصهيونية وإسرائيل من ظاهرة تراجع الشعور بالانتماء لليهودية، ما يمثل دافعا قويا لشبه انعدام الاستعداد للهجرة إلى إسرائيل، بل والهجرة منها، خاصة وأن 90% من يهود العالم يعيشون في دول مستوى المعيشة فيها وظروفها، أفضل بكثير من إسرائيل. وقد بين التقرير السنوي الصادر مؤخرا عن “معهد سياسة الشعب اليهودي”، التابع للوكالة الصهيونية، أن “أعداد أبناء الديانة اليهودية في دول العالم في تراجع مستمر، باستثناء إسرائيل. وهذا ناجم عن الاندماج في أديان أخرى، وتنامي ظاهرة الابتعاد عن الانتماء لليهودية”. و”المعهد” المذكور هو الأبرز في وضع استراتيجيات الحركة الصهيونية، والذي يركز بشكل خاص على مسألة مدى شعور اليهود في أوطانهم بالانتماء لليهودية، والحركات الصهيونية، والتماثل مع إسرائيل. وفي سياق متمم، نشير إلى الدراسة التي أعدتها 16 مؤسسة استخبارية أمريكية، والتي تنبأت بتلاشي “دولة إسرائيل” في عام 2025، حيث ترى هذه الدراسة أن “اليهود ينزحون من فلسطين إلى بلادهم التي أتوا منها، بنسبة كبيرة، وأن هناك نصف مليون إفريقي سيعودون إلى بلادهم خلال السنوات العشر القادمة، إضافة إلى مليون روسي وأعداد كبيرة من الأوروبيين”. الدراسة التي حملت عنوان “الإعداد لشرق أوسط في مرحلة ما بعد إسرائيل” بينت أنه “يوجد 500 ألف إسرائيلي يحملون جوازات سفر أمريكية، ومن لا يحملون جوازات أمريكية أو أوروبية في طريقهم إلى استخراجها”.

الوضع الاقتصادي، والدواعي الأمنية، وتراجع الشعور بالانتماء لليهودية – وغيرها – تأتي على رأس أسباب ظاهرة هجرة الإسرائيليين المعاكسة، خصوصاً وسط العلمانيين من الشباب ذوي المهارات والشهادات العالية، في ظل حكومات قومية/ دينية يمينية متطرفة، وهو ما يكشف زيف الادعاءات الصهيونية بخصوص ارتباط اليهود ارتباطا عضويا “بأرض الميعاد”. بل إن هذه الهجرة تشكل ضربة للمشروع الصهيوني الاستعماري/ الاستيطاني، بعد أن بات اليهود يؤمنون – على نحو متزايد – أن أمنهم ورفاههم الشخصيين أغلى من كل ما يمكن أن تقدمه الدولة الصهيونية وأن الغرب، في هذا السياق، يبقى الحاضن الآمن الأول لهم، وليس “دولة إسرائيل”.