استمرار وتطور “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”: هل من مجيب؟!!!

رغم أنني لم “أسعد” بأخذ أي مادة جامعية (كورس) معه أيام الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، إلا أنه كان – ولا يزال – أستاذي الذي تعلمت/ أتعلم منه الكثير. وهنا، أقصد الأستاذ وليد سامح الخالدي، العلامة الذي لا يشق له غبار، سواء على صعيد التفكير الاستراتيجي وسياسات الدول الكبرى بعامة، أو قضية الصراع العربي/ الإسرائيلي/ الفلسطيني بخاصة. ورغم إنجازاته الكبيرة على أكثر من صعيد، فإن دوره البارز في تأسيس أول مؤسسة بحثية مستقلة تعنى بالشأن الفلسطيني، هي “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في بيروت اعتبارا من عام 1963، يعتبر عملا متميزا يحسب له أكثر من غيره. وهذا العمل المبادر، كان ولا يزال يتفوق على نفسه رياديا، الأمر الذي يملؤني، وغيري، بفخر عظيم. ومع ذلك، فإن آخر زيارة لي للمؤسسة قبل شهرين، وبعد الإطلاع الكثيف على إنجازاتها في المحاور المختلفة، أصابتني حقيقة كبرى بألم عظيم. ففي “عيد ميلادها” الخمسين، ورغم محافظتها على “تألق الشباب” فيما أنجزت وفيما تحلم بإنجازه، باتت مؤسسة “مهددة” في حياتها وبالتالي في ديمومتها، وكلمة السر هي: العجز المالي! ومما يزيد الألم ويعملقه كون المبلغ المطلوب للإنقاذ يصرفه ثري فلسطيني/ عربي/ مسلم على شراء فيلا (زائدة عن الحاجة) هنا أو هناك في أرض الله الواسعة!!! وهنا، نتحدث عن أفراد وننسى حكومات أصبح كرمها (في مثل هذه الشؤون) في رحاب الدار الآخرة!!! ولولا أن سيدة نبيلة هي (سهى شومان) وأرملة رجل نبيل هو (خالد شومان)، لولا أنها أسهمت – مشكورة – بتبرع بلغ مليون دولار أمريكي دفعتها مرة واحدة، لكانت “المؤسسة” ربما في “خبر كان”!!! كذلك، مما أنقذ الموقف إسهام مماثل (سيتجاوز المليون دولار) يدفع تباعا من رجل صادق هو (رياض الصادق). ونحن هنا لا نغفل تبرعات أخرى – مشكورة – لكنها متواضعة قدمها إخوة آخرون فأسهمت في “بل ريق” “المؤسسة”، لكنها كلها لا تضمن ديمومتها ناهيكم عن تطويرها الدائب… والمنشود.

ورغم تعرض القضية الفلسطينية للتصفية فإننا نستذكر “الزمن الجميل” الذي عشناه وعايشناه في ستينيات القرن المضي ونستذكر “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، المؤسسة العربية المستقلة التي استهدفت التوثيق والبحث العلمي حول مختلف جوانب القضية الفلسطينية وإسرائيل والصهيونية  والصراع العربي ـ الإسرائيلي. وفي البداية المبكرة، اشتعلت فكرة “المؤسسة”، أول الستينيات، في رؤوس زملاء ثلاثة في الجامعة الأميركية في بيروت هم: الدكتور قسطنطين زريق، والاستاذ وليد الخالدي، والاستاذ برهان الدجاني، انضم لهم لاحقا عديد الأساتذة. وكان ذلك بعد أن أدرك القوميون العرب أن اقامة اسرائيل الصهيونية في قلب الوطن العربي تشكل خطراً قومياً وحضارياً وثقافياً قبل أن تكون خطراً عسكرياً داهماً، وأن الغزو الصهيوني بدأ بفلسطين ولكنه يستهدف المنطقة العربية والثقافة العربية والمستقبل العربي. وأن مواجهة هذا الخطر هي أيضاً مواجهة فكرية وحضارية تقارع الحجة بالحجة وتكشف زيف الادعاءات الصهيونية التي تملك قوة تتفوق فيها على العرب متجسدة في إمكاناتها المالية العالمية والتطور العلمي والنفوذ الصهيوني المتغلغل في المجتمعات الغربية. واستقر رأي هذه النخبة من المفكرين الفلسطينيين واللبنانيين على انشاء مؤسسة أبحاث، ظنوا أنها ستكون نواة مراكز البحث العربية ولم يدركوا، إلا متأخراً، ان مؤسستهم الخاصة والمستقلة والتي لا تتوخى الربح، وتقوم على جمع التبرعات غير المشروطة، ستبقى وحيدة في مواجهة غزو يحتاج الى عشرات مراكز الابحاث.

“المؤسسة” اليوم، صرح علمي كبير مقره في بيروت، وله مراكز في واشنطن وباريس ورام الله، لكنه صرح مهدد. فالموازنة السنوية التي تناهز الاربعة ملايين دولار ليس إلا (!!!)، تعتمد على التبرعات غير المشروطة الآخذة بالتراجع، مع تردي الأوضاع العربية والانشغال بقضايا أخرى عديدة ومصيرية للشعوب العربية، مثلما هي تعتمد على ريع مبيع منشورات المؤسسة، وريع وقفية زهيدة تتناقص سنوياً لسد عجز الموازنة، والوفاء بالمشاريع البحثية والثقافية التي لا مبرر لبقاء “المؤسسة” دون النهوض بها. إذن، القلق اليوم على مصير المؤسسة بات كبيرا، بل إن كبار المسؤولين وكبار الاداريين في المؤسسة (وعلى رأسهم “العمود الفقري” للمؤسسة الأستاذ محمود سويد) يقضون معظم أوقاتهم في البحث عن مصادر التمويل غير المشروط. وبحق، إنه لمن المؤسف أن يكون الهم الأساسي لهذه “المؤسسة” الرائدة والناجحة والوحيدة في العالم، المتخصصة والتي تحصر نشاطها منذ خمسين عاماً بالبحث في القضية الفلسطينية والصهيونية وإسرائيل، أن تكون في يوبيلها الذهبي مشغولة بالهم المالي، وبتأمين نفقات انتاجها سنة فسنة!!! فهي تمتلك اليوم واحدة من أهم المكتبات المتخصصة  في العالم، إذ تحتوي على أكثر من 75 ألف مجلد باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والعبرية والألمانية والإسبانية وغيرها. كما أنها أصدرت ما ينوف عن 700 كتاب بالعربية والانجليزية والفرنسية في مختلف نواحي القضية الفلسطينية والصهيونية وسياسات إسرائيل والدول الكبرى تجاه فلسطين، مجلة فصلية بالانجليزية (Journal of Palestine Studies) تصدر في واشنطن وتنشرها بالاشتراك مع المؤسسة جامعة بركلي في كاليفورنيا مخترقة جدران كبرى جامعات الولايات المتحدة؛ مجلة فصلية بالعربية (مجلة الدراسات الفلسطينية) تصدر في بيروت ورام الله تشكل صلة الوصل الفكرية بين مكونات الشعب الفلسطيني سواء في وطنه الام أو في الشتات؛ مجلة فصلية بالانجليزية (Jerusalem Quarterly) فريدة في تخصصها بشؤون القدس وشجونها تصدر في رام الله؛ نشرة يومية الكترونية عن اخطر ما تنشره صحف إسرائيل بالعبرية؛ ارشيف يضم نفائس تراثية (صور ومخطوطات ومطبوعات نادرة) تحافظ على الذاكرة الفلسطينية؛ تعريف مئات الالوف عن حقائق الوطن السليب وحقوق شعبه المغتصبة عن طريق النشر الالكتروني؛ علاوة على تدريب المئات من الشبان والشابات الفلسطينيين والعرب على النهج العلمي في دراسة التاريخ الفلسطيني، وغير ذلك من إنجازات.

اليوم، في ظل التحديات المتعاظمة والانصراف العربي (والفلسطيني الرسمي) عن التركيز بحثيا على الخطر الصهيوني، ندعو إلى الحفاظ على “المؤسسة” كما هي على الأقل، إن لم يكن توسيع نشاطاتها. ورغم الحاجة المادية، فإن “استقلالية مؤسسة الدراسات الفلسطينية” تساوي استمراريتها، بمعنى حاجة “المؤسسة” إلى من يحميها كي تستمر في أداء دورها ورسالتها التي تنفرد بها في العالم العربي. فهل من مجيب؟