سميح القاسم: كم “سررت” بأنني لم أرك!!!
في ذكرى أربعينه
أ.د. أسعد عبد الرحمن
كم “سررت” بأنني لم أرك! أنا الذي كنت استشعر السعادة كلما رأيتك. بل كنت، كي أستزيد من السعادة أو أخفف من وجع أي نوع من أنواع الآلام وهي كثيرة، كنت أقصدك، ضمن ندرة نادرة من البشر الذين تسعدني رؤيتهم إلى هذه الدرجة. وحقا، كم “سررت” إذ لم أرك، رغم أنني جئت خصيصا من عمان، مرورا برام الله، ركضا إلى بلدة “الرامة”، كي أراك – بل كي أودعك للمرة الأخيرة- في منزلك المتربع على سفح مرتفع في “جبل حيدر” الذي لطالما حدثتني عن عشقك له، عشق كرسته في حياتك وفي مماتك. كانت الأخبار قد تواترت عن تدهور صحتك، فتواصلت فورا مع “العائلة القاسمية” لأتأكد أن “حالتك” تسمح بالزيارة/ الوداع، فكان أن شُجعت على المجيء إليك. نعم شُجّعت فكانت تلك المرة الأولى والوحيدة التي وجدتني أتردد فيها وأحتاج إلى تشجيع، بل إنني كدت أحجم عن زيارتك… فأنا أكره، على وجه الإجمال، الوداع حتى لو كان وداعا مؤقتا، فكيف بالحال وقد أصبح الوداع “المتوجب” وداعا أخيرا ودائما… ولك؟!!! لك أنت بالذات، يا واحدا نادرا ممن أحببتهم، في مسيرة الحياة الطويلة، كل هذا الحب! قالوا لي، قبل أن أغادر عمان في طريقي إليك، أنك غادرت “مستشفى صفد” وعدت إلى “عرينك” – يا أيها الأسد- في “الرامة”. وحين وصلت إلى “عشّك” المنزلي – يا أيها النسر- بعد أربع ساعات من السفر بالسيارة (حيث ضعت ساعة كاملة من “عمية قماري”) لم أجد أحدا في منزلك، ولا في منزل ابنك في الطابق الأرضي، أو في منزل أخيك المجاور… فتركت رسالة قصيرة بعد أن علمت من ولدك الغالي محمد أن تدهور صحتك قد ألزم الأهل بنقلك، للمرة الأخيرة، إلى المستشفى ذاته. وحين قفلت عائدا، وما أن وصلت إلى أحد “مداخل” رام الله، إذا بهاتفي يرن لينقل لي الناعي خبر نعيك!!! وآه، كم “سررت” بأنني لم أرك… هذه المرة!!!
حين أقامت لك “مؤسسة فلسطين الدولية”، التي أديرها، حفل وداع يوم السبت 22/9/2012 في “المركز الثقافي الملكي” في العاصمة الأردنية كونك من أنت أولا، وكونك عضو مجلس أمنائها ثانيا، خاطبت أمامك الجمهور الحاشد يومها قائلا: وحين نأتي اليوم لتكريم صديق العمر، الحبيب الغالي الشاعر الكبير سميح القاسم، فوالله لا أعلم من يكرّم من؟ أوليس هذا (السميح) هو من يكرمنا بحضوره رغم ما يحمله على كتفيه، بل وفي جسده، من أثقال المرض؟ أوليس هو من أكرم أمته العربية وشعبه الفلسطيني/ الأردني التوأم، بالذات، بحمل هموم قضيته الأثقل من كل الأثقال. فأكرمته الأمة ولا تزال عرفانا بالإبداع والعطاء والموقف المبدئي؟
وحقا، لكل امرء من اسمه نصيب، فسميح يحمل في عقله وقلبه ينابيع متدفقة من السماحة. لا عقل متشدد –بالمعنى الضيق- عنده إلا بما تمليه المحبة، محبة شرفاء الناس. وحتى، تجاه من عادى شعبه، فإنه –دون أي تفريط بالحقوق –أبدى سماحة عقلية فقارعهم الذريعة بالحجة. وكذا الحال مع قلبه… حتى يخال من يعرفه أن سميحا هو قلب كبير متحرك. وسميح، بالتالي، صديق حقيقي للبشر. لكنه، كما في كل شيء، لا يساوم ولا يجامل. فيا شاعر المقاومة الفلسطينية والعربية، ويا صاحب الشعر الإنساني سواء في المضمون أو في تنوع الأشكال والأبعاد، كنت وستبقى قيثارتنا التي تطرب، وتعلّم، وتثقف، وتبني فينا الإنسان… والمقاوم. ثلاثون عاما من الصداقة المكثفة، والعلاقة الوثيقة، جعلتها صداقة حميمية مع (سميح) يقال في ثناياها ما لا يقال في وسائل الإعلام أو المجالس الكبيرة، لا ولا حتى في المجالس الصغيرة.
ثم، أمام الجمهور الحاشد، خاطبتك قائلا: هل لاحظت –يا أخي الحبيب سميح- ما لاحظته أنا، فقط اليوم، إذ كنت استرجع معالم صداقتنا، فلاحظت أن هذه الصداقة الطويلة المكثفة، الوثيقة، الحميمة، لم تشبها في أي يوم أي شائبة! ولو جهد الناس في تفحص ثناياها، بل لو هم نفضوها نفضا، لما وجدوا فيها ذرة واحدة من غبار… وهو أمر أعتز به كثيرا… وإلى الأبد. ثم إنني، إلى الأبد، ممتن للصدفة التي جعلتني –لسنوات طوال- جزء قريبا من “الزمن الجميل” الذي صنعه مبدعو جيلي/ جيلنا أو من جايلناهم وعن قرب: أنت، ومحمود درويش، وناجي العلي، واسماعيل شموط، وغسان كنفاني، وفدوى طوقان، وإدوارد سعيد، وقسطنطين زريق، وإحسان عباس، وإميل حبيبي، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وأبو سلمى الكرمي، وخالد شومان، وحسيب صباغ… كي أذكر بعض الأقربين، وممن قضوا نحبهم، ودون أن أذكر السياسيين والمناضلين الكبار الكبار أيضا الذين جايلناهم وتعلمنا منهم الكثير.
ختاما، لعل من أبلغ ما قرأت في رثاء “سميح” شعرا، ما قاله الشاعر اللبناني، المير طارق ناصر الدين:
“وقف العمر فصاحَ الشاعر الخيّال بالصوت الأجشّ
أنت يا عمر حصاني سِرْ و طِرْ بي نحو عرشي
سمع القبر وأصغى شاهراً أنيابه الكبرى كوحش
جمد النعش على الأيدي، وقال الميت: هذا ليس نعشي
فأنا ما زلت أمشي، ثمّ أمشي، ثمّ أمشي…
كنتَ في الشمس وأنتَ الآن في الظلّ فقل لي:
أيخاف الشمسَ ظلُّ؟
خلق الله كثيراً ليموتوا
خلق الشعر قليلاً ليظلّوا
مؤمن بالأرض بنت الوحي أمّ الكائنات
مؤمن باللغة الفصحى نواقيساً وقرآن اللغات
مؤمن بالشعر حتى ذوبان الروح بين الكلمات
أنت رمز عربيّ، من يقول الرمز مات؟
نحن في الأبيات نحيا
هم يريدون البيوت
ربما عادٌ أتتنا وتخلّت عن ثمود
ربما الغزلان صارت تتربّى بين أحضان الأسود
ربما قد تاب إبليسٌ وأفتى بالسجود
إنما لن تجمع الرؤيا إلهاً ويهود”