إسرائيل تتعصب دينيا: الشواهد والتداعيات

“هل سيتحقق السلام في الشرق الأوسط؟؟؟” سؤال سأله لنفسه الجنرال (مايكل فلن) رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية DIA أثناء شلال الدماء البريئة المسفوكة في قطاع غزة، أمام جمع من خبراء الأمن القومي في العاصمة الأمريكية واشنطن. الجنرال انتظر لحظة ثم أجاب على سؤاله قائلاً: “ليس أثناء حياتي، ليس أثناء حياتي!!!”. وفي 8 تموز/ يوليو الماضي جاء (فليب غوردون) مستشار الرئيس أوباما لقضايا الشرق الأوسط إلى إسرائيل، وألقى محاضرة صدمت إسرائيل في العمق بصراحتها المطلقة، إذ قال (غوردون): “لم تعد الولايات المتحدة الأميركية قادرة على حماية إسرائيل من الضغط الهائل الدولي بعد أن فشلت في تحديد حدودها وإنهاء احتلالها وإقامة حل الدولتين.. سيقود الاحتلال الإسرائيلي القائم إلى مقاطعة إسرائيل دولياً وعزلها سياسياً واقتصادياً عن باقي المجتمع الدولي”. وأنهى (غوردون) خطابه أمام الجمهور الإسرائيلي بصدمة كبرى عندما قال: “لن تقبل الولايات أن تضم إسرائيل الضفة الغربية. عندما يتمتع الفلسطينيون بحياة ملؤها الحرية والامن وشعور حقيقي بالعزة والسيادة الوطنية، إسرائيل نفسها ستجد السلام الذي يؤمن أمنها وبقاءها”.

التشاؤم المطلق الذي أبداه كل من الجنرال (فلن) والمستشار (غوردون) مصدره الرئيسي هو أن الصراع الفلسطيني/ الصهيوني يتحول (إسرائيليا) إلى صراع ديني مع تعاظم قوة اليمين المتطرف، وهو الأمر الذي يستدعي – بالضرورة – تحولات مشابهة لدى الطرف المقابل. ومن المعلوم أن الصراعات الدينية يخوضها المتدينون حتى الموت ويرفضون الحلول الوسط وهم خطرون في كل مجتمع. وحسبنا هنا الإشارة إلى أنه، في تشرين الاول/ أكتوبر 2000، وأثناء انعقاد مؤتمر “رابطة الحاخامين من أجل شعب إسرائيل وأرض إسرائيل”، خطب الحاخام (اليكيم ليفانون) أحد رؤساء “الصهيونية المتدينة”، كما يسمون أنفسهم، قائلا: “حان الوقت للامساك بالصولجان والعودة الى عصر الملك داود وأن نعلم أن الحاخامين ليس عملهم تدريس التوراة بل انشاء قيادة تكون الحكومة الحقيقية لشعب اسرائيل”. ومن الانزياح في المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، اعتبرت الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين أن جيش الاحتلال استخدم “قوة غير مفرطة” أو “ملائمة” خلال الحرب على قطاع غزة، وعبروا عن تأييدهم لتقييد حرية التعبير عن الرأي خلال الحرب مع عدم توجيه انتقادات للجيش. وهذا ما تأكد بوضوح في استطلاع “مؤشر السلام”، الذي يصدر عن “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” وجامعة تل أبيب، وشمل اليهود فقط.

لقد أصدرت “مؤسسة سياسة الشعب اليهودي” دراسة متميزة كشفت عن تزايد نسبة المقاطعين اليهود حول العالم لإسرائيل بسبب تحولاتها المجتمعية المنزاحة نحو اليمين المتطرف، ونتيجة الحراك الفلسطيني المدني الممثل بحركة BDS (اختصارها، بالعربية، مساع) المنافية للعنف وحملاتها لمقاطعة إسرائيل التي غطت كل الميادين العالمية. لقد اقنعت (مساع – BDS) وفقا للدراسة، الكثير من يهود الولايات المتحدة الأمريكية “بمقاطعة إسرائيل لان سياستها العنصرية القمعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة تناهض المبادئ الإنسانية الديمقراطية”، واستنتجت أن “الاحتلال يلغي الأمن ويلغي الديمقراطية ويلغي مبدأ التعايش السلمي بين الشعوب، بل إنه يقود في آخر الأمر إلى الدولة العنصرية”. كما أبرزت هذه الدراسة دور “المنظمة اليهودية الأميركية” التي تضم صهاينة وغير صهاينة ويهود مناهضين للصهيونية تحت لواء “الصوت اليهودي المؤيد للسلام”، والتي انضمت إلى حملات (مساع – BDS) في الولايات المتحدة لمقاطعة إسرائيل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إلى أن ينتهي الاحتلال، وتتحقق المساواة في الحقوق بين فلسطينيي 48 واليهود الإسرائيليين، وبعد أن يتم الاعتراف بحق العودة لكل من هجر من أرضه من الفلسطينيين.

في مقال بعنوان “دولة يهودية تعد بالتشويش وعدم الاستقرار والخطر” كتب (أبراهام بورغ) وهو رئيس البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي الأسبق، يقول: “في السنوات الاخيرة، شيء عميق جدا تشوش هنا (إسرائيل). عندما تحدثوا في 1948 عن (دولة يهودية) كان المقصود بـ (يهودية) شيئا مثل الدولة الايطالية، الفرنسية أو الامريكية. تعريف غامض يوجد في المساحة التي بين الثقافة والمواطنة. التعريفات والخصال في أيام بداية الدولة كانت في أساسها علمانية. غير أن الطاقة العلمانية الاسرائيلية ضعفت جدا، هزلت وفقدت زخمها”. ويتابع: “مسيرة أفول العلمانية واليهودية كثقافة واسعة ترافقت مع مسيرة نهوض وتجدد لدينية قومية جديدة، ضيقة ومقلصة، سيطرت باسمها في السنوات الاخيرة بضع مجموعات ايديولوجية على محركات المضمون والهوية الاسرائيلية، وغيرت منظومة التفعيل الاسرائيلية. وبالمناسبة، غيرت أيضا طابع اسرائيل من دولة علمانية، متفانية كأداة في يد الجمهور، الى دولة شبه دينية يوجد الجمهور في يدها ومتفانٍ لمزاجاتها”. وختم (بورغ) قائلا: “أمام ناظرينا تحدث بالتالي مسيرة صرخة عجيبة. دولة اسرائيل تنزع عنها جلدتها القديمة وتلبس جلدة جديدة – دولة الرب. ليست ديمقراطية بعد اليوم بل بداية ثيوقراطية (حكم الطغمة الدينية)، خطوطها آخذة في الاتضاح”.

وفي مقال متميز بعنوان “معسكر ما بعد الديمقراطية”، كتب (ب. ميخائيل) يقول: “لقد رعت الدولة، في تمثيلية حماقة وعمى نادرة، المتدينين ودللت وأطعمت حتى التخمة هذياناتهم فازدادوا قوة”. ويضيف: “لقد أصبح هذا المعسكر الآن أكبر بأضعاف، وقد تجاوز حدود الدين وتجاوز حدود ارض اسرائيل الكاملة وتجاوز حدود النشاط خارج الحلم. وهو يشمل الآن المتدينين والعلمانيين، والجامعات ووسائل الاعلام، والنخبة ومن تحتهم، والشرق والغرب، واليمينيين وغير المبالين، والمنتخبين والناخبين، وزعران الشوارع والجالسين الى ألواح الطباعة. فهو معسكر عظيم ضخم يستحق هو ايضا اسماً يخصه فليُسمح لي بأن أقترح الاسم وهو “معسكر ما بعد الديموقراطية.. إنه المعسكر الذي يطمح الى أن يتحرر من سخافات الديمقراطية. وهو يرى حقوق المواطن مضايقة مثلما يرى العنصرية قيمة مباركة. وهو أيضا يرى الديمقراطية فقط تدريب رياضة أوروبية لسن قوانين فاسدة وأداة لاحلال قرارات آثمة. إنه الآن أقوى معسكر سياسي في اسرائيل والذي يزداد قوة ايضا”. وينتهي (ميخائيل) بقوله: “لكن ما بعد الديمقراطية ليس نهاية الطريق فهو يبشر فقط بمجيء المرحلة التالية. ولن يكون فاشية تقليدية مقبولة بل نسخة محلية مميزة، وسيكون على نحو محتوم تقريبا نتاج ظاهرتين: الاولى، تاريخية وهي خطأ دافيد بن غوريون المصيري الذي لم يفصل الدين عن الدولة. والثانية، اجتماعية وهي فقدان مواطني اسرائيل ثقتهم بأنفسهم وهم الذين يشعرون أن الارض ترتجف تحت أقدامهم وأن أسس بيتهم القومي تقوم على جرف هاو وأن المستقبل يزداد قتامة”.