(نتنياهو) يعمل للاستيلاء على “الكل”، فهل نقبل “الجزء”؟!

تاريخيا، منذ قيام الدولة الصهيونية في العام 1948، لا عنجهية ولا صلافة تعلو فوق عنجهية وصلافة رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو). فهذا الأخير هو القومي اليميني، الرافض للحقوق الوطنية الفلسطينية رفضا منبعه عند “قائده الروحي” (فلاديمير جابوتنسكي) – “رائد” التطرف الصهيوني الأشهر! لذلك، لا غرابة أن يكون لدى (نتنياهو) نظرة انتقائية واعتقادا ذاتيا بانه على حق بخصوص تاريخ “دولته”، وهو مدفوع بالحقد والاحتقار تجاه العرب عامة والفلسطينيين خاصة. كما أنه ينظر إلى علاقات اسرائيل مع العالم العربي على أنها صراع دائم بين قوى النور وقوى الظلام. أما الائتلاف الحكومي الذي يقوده فيمثل اليمين الأكثر عدوانية، والأشد تصلبا من الناحية الدبلوماسية، والأوضح عنصرية في تاريخ اسرائيل، والحدود عندهم هي “حدود إسرائيل الكبرى”!!!

أما مطالب السيد (نتنياهو) التي تكشفت عنها “المفاوضات” الفلسطينية مع حكومته فهي: أولا، الاعتراف (بيهودية الدولة) والمطالب الأمنية الرئيسية لإسرائيل مقابل الاعتراف بما يشبه دولة فلسطينية على نسق “دولة” سعد حداد. ثانيا، تبادل السكان بين المستعمرين/ “المستوطنين” المقيمين بالقوة على الأرض الفلسطينية المحتلة 1967، والمواطنين الفلسطينيين في أراضي الـ 48. ثالثا، تجريد السلطة الفلسطينية من مضمونها، مع استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية دون ثمن. رابعا، اﻟﻘﺪس يريدونها “عاصمة أبدية” لإسرائيل دون تقسيمها لذا الاستمرار بتهويد المدينة المقدسة. كما أن (نتنياهو) يعتبر نفسه بمثابة “اﻟﺪرع اﻷﻛﺒﺮﻟﻠﺪﻓﺎع ﻋﻦ المستوطنين وأن ﻻ ﺷﻲء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺜﻨﻴﻪ ﻋﻦاﻻﺳﺘﻤﺮار في “اﻟﻜﻔﺎح” ﻣﻦ أﺟﻞ اﻻﺳﺘﻤﺮار في ﺗﻌﺰﻳﺰ “اﻻﺳﺘﻴﻄﺎن” في اﻟﻘﺪساﻟﺸﺮﻗﻴﺔ وﻣﻨﺎﻃﻖ ﻳﻬﻮدا واﻟﺴﺎﻣﺮة (اﻟﻀﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ)”.

في مقابلة مع “ﺑﻠﻮﻣﺒﺮغ” (وكالة أنباء ألمانية) قال (نتنياهو) أنه يدرس فكرة الانسحاب أحادي الجانب ﻣﻦ (ﻣﻨﺎﻃﻖ) في اﻟﻀﻔﺔ ﻻﻋﺘﻘﺎده “أن اﺳﺘﻤﺮار اﻟﻮﺿﻊ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻏﻴﺮ ﺟﻴﺪ ﻹﺳﺮاﺋﻴﻞ”، ﻧﻈﺮاً إلى أﻧﻪ “ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﻗﻴﺎم دوﻟﺔ ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ”. ولقد سأله الصحفي (جيفري غولدنبرغ) أربع مرات، بطريقة مختلفة – “وماذا بعد يا سيدي رئيس الحكومة، الى أين تريد أن تصل في العملية السياسة؟”. وفي الأربع مرات تهرب نتنياهو من الرد على السؤال. في السياق ذاته، وفي مقال بعنوان “قيمة نتنياهو العليا” كتب (عوزي برعام) بشأن دعم (نتنياهو) لرئيس “الدولة” المنتخب (رؤوبين ريفلين)، المؤيد “للاستيطان” والذي سخرت الصحافة الإسرائيلية منه باعتباره مرشح الليكود للرئاسة: “…الاجماع في قيادة الليكود واضح وهو يعبر عن القيادة أكثر من تعبيره عن الناخبين”. واضاف: “اذا كان بيبي قفز فوق مركب ريفلين مخالفا ما قاله وآمن به – فمن يضمن لنا ألا يقفز فوق كل مركب مريب يضمن بقاءه؟ فقد أصبح هذا الهدف عنده كما يبدو القيمة العليا التي تشتق قراراته منها”. وختم: “إن تغيير نتنياهو موقفه السريع المتقلب في أمر دعم ريفلين ينصب أمامنا شارة حمراء مظهرا لنا أن البواعث التي تؤثر في اتخاذ نتنياهو للقرارات مستعبدة تماما لقيمة حفظ البقاء المقدسة”.

(نتنياهو) لا يريد ضم أكبر جزء من الضفة والقطاع فحسب، بل هو يعمل لإقامة “دولة يهودية” ويرفض الدولة الثنائية القومية. هو يريد الأرض بلا سكان، و”الأمن المطلق” بمفهومه الصهيوني، ويريد أن يبقى القطاع محاصرا، ومعزولا. كما أنه يصر على وجود إجماع إسرائيلي بأن الرئيس محمود عباس “غير شريك”. وفي مقال للكاتب (أﻣﻨﻮن ﺷﻤﻮش) بعنوان “في عهد نتنياهو أصبحنا ضد العالم كله” كتب يقول: “ﻟﻴﺲ ﻣﻦ المبالغة اﻟﻘﻮل إن ﺛﻤﺔ ﺗﻤﺎﻫﻴﺎً ﺧﻔﻴﺎً ﺑﻴﻦ ﻋﺪم ﺗﺪﺧﻞ ﻧﺘﻨﻴﺎﻫﻮ، وﺑﻴﻦ ﻣﺒﺎدرﺗﻪ إلى ﺳﻦّ “ﻗﺎﻧﻮن أﺳﺎس: اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ” اﻟﺬي ﺗﻨﺒﻌﺚ ﻣﻨﻪ أﻳﻀﺎً راﺋﺤﺔ اﺳﺘﻜﺒﺎر ﻋﻠﻰ أﺑﻨﺎء ﺷﻌﻮب وأدﻳﺎن أﺧﺮى ﻳﻌﻴﺸﻮن وﺳﻴﻌﻴﺸﻮن ﻣﻌﻨﺎ في اﻷرض المقدسة”. ويضيف: “إن اﻹﻳﻤﺎن اﻷﻋﻤﻰ ﻳﺆدي إلى ﺷﻞّ اﻟﻘﺪرة ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ واﻟﻔﻬﻢ والمصالحة. وﻧﻈﺮاً إلى ﻛﻮن ﻧﺘﻨﻴﺎﻫﻮ رﺟﻞ اﻳﻤﺎن أﻋﻤﻰ، ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﺑُﺪ ﻣﻦ اﺳﺘﺒﺪاﻟﻪ ﺑﺰﻋﻴﻢ ﻳﻔﻬﻢ وﻳﻌﻠﻢ أن ﺛﻤﺔ رواﻳﺘﻴﻦ ﻳﺠﺐ اﻟﻘﻴﺎم بالمصالحة ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ: اﻟﺮواﻳﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ واﻟﺮواﻳﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ”. ويختم: “ﻟﻘﺪ ﺣﺎن اﻟﻮﻗﺖ ﻛﻲ ﻳﺸﻐﻞ رﺋﻴﺲ الحكومة ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ والملحة، وفي ﻣﻘﺪﻣﻬﺎ ﻗﻀﺎﻳﺎ وﻃﻦ ﻳﻘﻮم ﻣﺘﻄﺮﻓﻮن ﻗﻮﻣﻴﻮن ﺑﺘﺪﻧﻴﺲ ﻣﻘﺪﺳﺎﺗﻪ، وﻳﺘﺴﺒﺒﻮن ﺑﺘﺄﺟﻴﺞ ﻻﺳﺎﻣﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة في ﺟﻤﻴﻊ أﻧﺤﺎء العالم ﻏﻴﺮ اﻟﻴﻬﻮدي”.

ما يفهم مما سبق، أن (نتنياهو) يريد اختفاء الفلسطيني تماماً من الوجود، وخصوصاً من التاريخ، اللهم وفق الرواية الصهيونية التي تقزم أحقيته بالأرض وحقوقه الأخرى، وكأنه يعيش القلق من المستقبل، ومن الشعب والتاريخ اللذين يكرسان حقوق الفلسطينيين بالأرض الفلسطينية. صحيح أن الفلسطينيين أعادوا تعريف “الثوابت والحقوق الفلسطينية” لتعني دولة فلسطينية فقط على حدود الرابع من حزيران 1967، لكن هذا لا ينفي أن فلسطين كل فلسطين – تاريخيا – هي أرض الشعب الفلسطيني الواحد سواء في الضفة أو القطاع أو أراضي الـ 48، ولا يمكن ضمن أي تسوية التراجع عن حق تاريخي حتى لو من أجل تسوية راهنة.

إن ما يريده (نتنياهو) أي إصراره على أن الاعتراف الفلسطيني بـ “الدولة اليهودية” شرط أساسي لنجاح المفاوضات والتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، يعيدنا ويعيد القضية الفلسطينية إلى مربعها الأول. فهو، بذلك، يرى (ونحن علينا بالتالي أن نرى) أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو صراع وجود وليس حدود، ذلك أن كافة الاتفاقات والمعاهدات والتفاهمات والتنازلات، لم تجبر الاحتلال على تقديم أي تنازل، بل زادته تطرفا وإصرارا على تنفيذ مخططاته التوراتية التي تعتبر فلسطين التاريخية “الوطن القومي لليهود”، مع رفض الاعتراف بالحقوق الوطنية والتاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني. وعليه، يتوجب علينا القول: طالما رفع الإسرائيليون سقفهم السياسي، فعلينا ليس أن نخفض سقفنا، ولا حتى أن نقبل بالسقف المنخفض لبرنامج “الحد الأدنى” الفلسطيني. فإن هم لم يأتوا إلى كلمة سواء من خلال “تسوية تاريخية” حدها “الحد الأدنى” الذي تبنته فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فنذهب عندئذ إلى الجذر، إلى الأصل، أي المطالبة بفلسطينية فلسطين الكاملة (مقابل يهودية فلسطين) أو نذهب سويا إلى الدولة الديموقراطية المدنية الواحدة حيث لكل مواطن مقيم على أرض فلسطين (مسلما، أم مسيحيا، أم يهوديا) الحقوق ذاتها وعليه الواجبات نفسها.