محركات في سفينة الرئيس الروسي (بوتين)

منذ انتخابه رئيسا لروسيا الاتحادية في آذار/ مارس 2000، سعى الرئيس (فلاديمير بوتين) إلى إحياء الحوار مع العالم العربي، وبدأت روسيا تستعيد علاقاتها الاقتصادية في المنطقة، وأنشأت اتصالات جديدة. وخلافاً للعهد السوفيتي، انتظمت علاقات موسكو مع دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. كذلك، تعمقت هذه العلاقة، أساسا، منذ العام 2007 وحتى 2009، مع الجزائر، وليبيا، وسوريا، ومصر في المجالات الاقتصادية والنفط والغاز، وفي مجال بيع الأسلحة، فضلاً عن البحث في إقامة المفاعلات النووية للأغراض السلمية (آخرها ما تم مع الأردن). كما يجب ان لا ننسى العوامل الداخلية التي ساعدت (بوتين). فداخليا، تنشط جميع الأجهزة الحكومية الموالية للرئيس العاملة في قطاعي الاعلام والسياسة لبث الروح الوطنية وتعظيم قيمة التقاليد الروسية، وذلك بحسب عدة مصادر رصينة

لربما يكون “المحرك” الأول في سفينة (بوتين) سعيه الواعي لاستعادة هيبة موسكو على المستويين الداخلي والخارجي. فلقد أعاد – تدريجيا – الاعتبار لها، فتعززت مكانتها بين دول العالم، وتزايد تأثيرها في مجريات السياسة الدولية، إلى أن أصبحت مساهما رئيسيا في رسم الخريطة السياسية في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط. وفي تصنيف مجلة “فوربس” لعام 2013 لأقوى الشخصيات في العالم، أطاح الرئيس (بوتين) بنظيره الأميركي (باراك أوباما) من المرتبة الأولى، وحل في المرتبة الثانية الرئيس الصيني (شي جينبينغ). وقد تم تحديد نفوذ الـ 72 شخصية المدرجين في هذه اللائحة السنوية من سياسيين وأصحاب مؤسسات وداعمين (محسنين) بناء على أربعة معايير: وهي عدد الأشخاص الذين يملك سلطة عليهم، والموارد المالية التي يتحكم بها، ومدى اتساع نفوذه، وكيفية ممارسة النفوذ لتغيير العالم. وقالت المجلة في تفسير حلول (بوتين) في المرتبة الأولى “إن بوتين عزز سيطرته على روسيا، وكل من تابع لعبة الشطرنج بشأن سورية تكونت لديهم فكرة واضحة عن ميل النفوذ لصالح بوتين على الساحة الدولية”.

أما “المحرك” الثاني في السفينة ذاتها فيكمن فيما يدور داخل عقل (بوتين) السياسي. وعن هذا، تقول (أولغا كريشتانوفيسكيا) الخبيرة في الشؤون السياسية والنخبة الروسية: “يعتبر بوتين انعكاسا للرأي التحليلي للفرد الروسي، وما يقوله في بعض الأحيان وإن كان متناقضا إلا أن ذلك هو الطريقة التي يفكر فيها الروس”. وقد ذكّرت (كريشتانوفيسكيا) بتصريح (بوتين) في ولايته الأولى من أن “أكبر كارثة جيوسياسية مرت فيها البلاد هي حل الاتحاد السوفيتي”، حيث عقبت: “هذا بالضبط ما يقتنع به غالبية الروس”. وعلى صعيد الملف السوري مثلا، قالت (كريشتانوفيسكيا): “اذا نجحت المساعي الروسية في حل الأزمة السورية، فإن بوتين والحكومة سيستغلون هذه النقطة لدعم صورتهم داخليا وخارجيا وكيف أنهم أنقذوا العالم من الحرب. وإن فشلت هذه المحاولات، سيكون الرد بأن الأمريكيين أينما ذهبوا يجلبون الحروب معهم، وقد حاولنا وبذلنا جهدنا.. نحن قوة الخير والسلام الا أن قوة الشر لم تستمع لنا”!! وأوضحت الخبيرة: “كل ما يقوله أو يفعله الرئيس بوتين مفهوم وواضح بالنسبة لنا كروس، الا أنه ليس مفهوما بالنسبة للأمريكيين، والعكس صحيح. على سبيل المثال الرئيس الروسي الأسبق، غورباتشوف، كان محبوبا من قبل العالم الا أنه لم يكن كذلك بين الروس، لأنه لم يتماش مع العقل الروسي”. وقالت: “عندما يفكر بوتين في تبرير سياساته فإن من الأسرع استذكار العدو القديم من خلق عدو جديد، وهو الامر المزروع في غالبية الروس، وهذا الأمر يعتبر محركا قويا في السياسة الداخلية للبلاد”.

وفي سياق متمم، يأتي “محرك” المبادرات واغتنام الفرص. فقد استفادت موسكو من حالة الغضب فى مصر تجاه الولايات المتحدة، وقد أشاد بعض المتظاهرين ببوتين ورفعوا صوره كبديل للولايات المتحدة في المنطقة. وفي لبنان، أسست روسيا استراتيجية للعلاقات مع طائفة الروم الأرثوذكس فى البلاد، والتي تربطها علاقات قوية بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية”. من جانبها، اعتبرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” أن “تخبط أوباما في التعامل مع أزمة الأسلحة الكيميائية السورية كان منحة إلى بوتين لتصدر المشهد السياسي العالمي. ومع نجاح المبادرة الروسية بشأن وضع الأسلحة الكيميائية السورية تحت الرقابة الدولية، يكون بوتين قد رد الجميل لأوباما من خلال تمكين الأخير من تجنب تصويت الكونجرس الأمريكي الذي كان يخشى من خسارته، بالإضافة إلى تجنيبه مغامرة خارجية لا يريدها”. وأردفت الصحيفة قائلة إنه “مع تغيير روسيا من أسلوبها الفظ إلى أسلوب أكثر ايجابية، فإنها ستشرع في إثبات قدرتها على حجز موقعها في صدارة المجتمع الدولي”.

ولعل “المحرك” الإضافي يتجلى في إيمان (بوتين) بأهمية العلاقات العامة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مقاله “دعوة للحذر”، الذي وجهه إلى الشعب الأمريكي وقادته السياسيين، حيث يخاطبهم فيقول: “ما يثير القلق هو أن التدخل العسكري في النزاعات الداخلية في الدول الأجنبية قد أصبح أمرا مألوفا بالنسبة للولايات المتحدة. فهل هذا في مصلحة أميركا على المدى الطويل؟ أشك في ذلك. فالملايين في جميع أنحاء العالم لم تعد ترى أميركا بوصفها نموذجا للديمقراطية، بل أنها أضحت تعتمد على القوة الباطشة التي تستجمع حولها حلفاء وفق مبدأ (من ليس معنا فهو ضدنا). لكن تلك القوة أثبتت عقمها وعدم جدواها، فأفغانستان تترنح، ولا أحد يستطيع أن يتوقع بما سيحدث بعد انسحاب القوات الدولية. وليبيا انقسمت إلى قبائل وعشائر. وفي العراق لا تزال الحرب الأهلية تحصد العشرات كل يوم. وفي الولايات المتحدة يستخلص الكثيرون أوجه تشابه بين العراق وسوريا، ويسألون لماذا تريد حكومتهم تكرار الأخطاء الأخيرة”! بل إن (بوتين) خرج عن المألوف في توجهه إلى الشعب الأمريكي حين وجه انتقادا لاذعا لما اعتبره “الغطرسة الأمريكية” التي ما زال قادة أمريكيون يصرون عليها وكأنهم “شعب الله المختار”. وفي هذا السياق، أضاف بدبلوماسيته: “أود أن أختلف مع القضية التي طرحها الرئيس أوباما بشأن الاستثنائية الأميركية، عندما قال إن سياسة الولايات المتحدة هي (ما يجعل أميركا مختلفة. وهذا ما يجعلنا استثناء). إنه لمن الخطير للغاية تشجيع الناس على رؤية أنفسهم استثنائيين، مهما كانت الدوافع”. وختم قائلا: “هناك دول غنية ودول فقيرة وهناك دول كبيرة وأخرى صغيرة، ولكن يبقى شيء واحد مهم، هو أننا حين نتوجه بالدعاء إلى الله ليباركنا، فإن علينا أن لا ننسى أنه خلقنا جميعا متساوين”.