القدس: الاستعمار الإسرائيلي للأرض وللعقول!!

د. أسعد عبد الرحمن

على مدى عقود أربعة من احتلال القدس الشرقية، أقدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تنفيذ سياسات ممنهجة بهدف تقليص عدد السكان الفلسطينيين وتهجيرهم خارج مدينتهم. واليوم، تشن الحكومة اليمينية لرئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) هجمة مركزة على القدس الشرقية بهدف تغيير الواقع الديموغرافي لها على نحو حاسم، عبر ضم الكتل الاستعمارية/ “الاستيطانية” الكبرى المحيطة بالقدس، فضلا عن تسمين “المستوطنات”، علاوة على هدم المنازل العربية بحجة عدم الترخيص، حتى باتت المدينة المقدسة محاطة بحزام “استيطاني” يزداد توغلا في كل الحارات والبلدات، الأمر الذي قلص الوجود العربي في زهرة المدائن وحول الأحياء الفلسطينية فيها إلى كانتونات ينزرع فيها “الاستيطان” كما هي الغدد السرطانية. بالتوازي، تسرع الدولة الصهيونية في معاقبة المقدسيين المتمسكين في البقاء على أرضهم والرافضين للخروج من المدينة، ومن ضمن ذلك محاولة احتلال وعي وذاكرة الطلبة المقدسيين، ومحاولة شطب الذاكرة والتاريخ الفلسطيني، حيث بدأت سلطات الاحتلال فعليا بعملية تهويد وتحريف للمنهاج الفلسطيني بالقدس المحتلة، واستبداله بالمنهاج الإسرائيلي، الذي يحتوي مواد تعليمية في مقدمتها نشيد إسرائيل عوضا عن النشيد الوطني الفلسطيني، وأن القدس عاصمة إسرائيل، وليست مدينة فلسطينية عربية محتلة، وأن الفلسطينيين ضيوف مؤقتون في دولة إسرائيل. لكن الأخطر من كل هذا، هو إلزام الطلبة بدراسة الأساطير والخزعبلات التوراتية اليهودية، خاصة الأعياد والصلوات، والاحتفال بما يسمى “عيد الاستقلال” بدل النكبة الفلسطينية، واستبدال الهيكل المزعوم بالمسجد الأقصى المبارك. كما أن دولة الاحتلال لا تمنح المواطنة للمقدسيين وتسعى جاهدة إلى محاصرتهم ليعيشوا بغربة على “أمل” أن تدفعهم إلى الرحيل!!

في سياق هذه الحرب الثقافية، تعمد بلدية القدس المحتلة، الى منع بناء المدارس الجديدة، أو التوسع في الابنية المقامة حاليا، الى جانب محاولاتها المستمرة السيطرة على المدارس الخاصة، مع العلم أن قطاع التعليم في القدس يفتقر لأدنى المقومات الأساسية، والبيئة التعليمية بالمدينة سيئة للغاية. من هنا، يأتي الخوف من قيام عدة مدارس في بلدية القدس باستبدال مناهج وزارة التربية الفلسطينية بمناهج اسرائيلية ابتداء من العام الدراسي الحالي 2013, الأمر الذي يخدم أجندات الاحتلال في طمس الهوية العربية والإسلامية ويضرب الثقافة الوطنية الفلسطينية في الصميم ويغيب ويحرف الحقائق الدينية والتاريخية والجغرافية ويربط الجيل الفلسطيني بالفكر الصهيوني. وعن هذا، يقول رئيس مركز المناهج في وزارة التربية الفلسطينية (جهاد زكارنة) أن “سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ومن خلال وزارة المعارف الإسرائيلية، تعتدي على المنهاج الفلسطيني بشتى الطرق عبر طمس وشطب بعض العبارات التي تخص الهوية الفلسطينية بقلم أسود”!! وأضاف ان هذا “الاعتداء تطور الى طباعة الكتاب الذي تصدره وزارة التربية الفلسطينية مرة أخرى بعد ازالة الرسومات والخرائط والصور التي تشير من قريب او بعيد الى مدينة القدس وأرض فلسطين والنشيد الوطني الفلسطيني، والعبارات ذات البعد الوطني والحديث عن الشهداء والاسرى بما يشكل مخالفة قانونية واضحة بحق الوزارة صاحبة الكتاب”.

وفي شرح رقمي بليغ عن الوضع المأساوي لمدارس المدينة، يقول امين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس (عبد الله كنعان), إن “المدارس في القدس المحتلة تخضع لوزارة المعارف الإسرائيلية التي تشرف على التعليم الابتدائي بينما التعليم الثانوي يخضع لرقابة بلدية الاحتلال في المدينة المحتلة، ويتبع لهما 52 مدرسة، يصل عدد طلبتها الى 38820 أي ما يساوي 06 ر47% من مجموع طلبة القدس الشرقية, في حين ان عدد معلميها 1700 ، أي ما يساوي 4ر42%، بينما لا تشرف الأوقاف الإسلامية/ الحكومية إلا على 39 مدرسة عدد طلبتها 12400، أي ما يساوي 03ر15%، وعدد معلميها 732، أي ما يساوي 3ر1%”. هذا، “في حين ان المدارس الخاصة والأهلية يبلغ عددها 69 وطلبتها 24110، أي ما نسبته 22ر29% وعدد معلميها 1429، أي ما نسبته 7ر35%، بينما وكالة غوث اللاجئين لا تشرف إلا على 8 مدارس عدد طلبتها 2442، أي ما نسبته 96ر2%، وعدد معلميها 147، أي ما يساوي 7ر13%”. ويختم: “تبين الارقام ان المدارس الخاضعة لإشراف سلطات الاحتلال التعليمية تأتي في المرتبة الأولى من حيث عدد طلبتها والثانية من حيث عدد مدارسها, وهنا مكمن الخطر الوجودي”.

في وجه المخططات والمحاولات الإسرائيلية، تواصل الفعاليات الشعبية والوطنية نضالها لإفشال مخطط الاحتلال الذي يدعو للانتماء وتعزيز الصلة والولاء إلى إسرائيل والاعتراف بها “كدولة يهودية”. وإذا كان على المقدسيين خاصة، والفلسطينيين عامة، مقاومة مثل هذه التوجهات الخطيرة التي لا تخدم إلا مصالح الدولة الصهيونية وسياستها التهويدية، فإن على العرب والمسلمين ان يوفروا لمدارس القدس كافة جميع وسائل الدعم المادية والبنيوية بما يمكنهم من تخطي جميع العراقيل التي تضعها بلدية الاحتلال أمامها ويحول بينها وبين الاندفاع وراء مغريات سلطات الاحتلال المادية والتعليمية. وهنا نتساءل بشكل محدد عن دور وزارات التربية والتعليم في الدول العربية المطالبة بان تسهم في الحفاظ على الهوية العربية في القدس المحتلة من خلال تقديم الدعم المالي وتطوير المناهج الفلسطينية وتدريب المعلمين على زرع القيم الوطنية لدى الطلبة باعتبارهم خط الدفاع الاول عن هويتهم، والسد المنيع امام تهويد المفاهيم والقيم الاخلاقية التي تقوم بها سلطات الاحتلال. كما ينطبق الأمر ذاته على منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) خاصة في نطاق العمل على إلزام إسرائيل بالإذعان لقرارات الأمم المتحدة الوقائية التي تطلب إلى إسرائيل الامتناع عن إجراء أية تغييرات ديموغرافية أو تاريخية أو حضارية أو روحية أو قانونية أو تعليمية.

نعلم أن الاحتلال يسعى، وبكل الوسائل، إلى تفريغ فلسطين من أهلها الفلسطينيين مثلما أنه يسعى إلى تفريغ الفلسطيني من مقوماته الوطنية والأخلاقية والإنسانية، ليصبغه بصبغة صهيونية، تنسجم مع رؤى الاحتلال، وتخضع لإملاءاته. من هنا فإن خطة وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية ما هي إلا جزء من معركة فرض السيادة على المدينة في سياق معركة الأسرلة الكاملة ليس للمنهاج الفلسطيني في مدينة القدس فحسب، بل لكل المدينة. كذلك، تشكل “الخطة” اختراقا صريحا للمجتمع الفلسطيني المقدسي، يتوجب معه رص الصفوف في زهرة المدائن لمواجهة محاولة الاحتلال “استيطان” عقول الأجيال المقدسية، فتشويه الهوية الفلسطينية وخلخلة الوعي للأجيال الناشئة يسهل السيطرة على المدينة: قلب فلسطين النابض.