التشاركية والإقصاء: الحل!

لا مكابرة أو إنكار لحقيقة أن العالم العربي اليوم يخوض مرحلة يكتنفها الغموض بعد تعاظم المناكفات بين القوى والكتل السياسية المتسيدة للمشهد السياسي، ما ترتب على ذلك من إرباك واختلالات في الوضع السياسي جاءت بالفوضى والاضطراب. من هنا تظهر أهمية المراجعة المستمرة للبرامج السياسية لتشخيص أسباب الفشل وتحليل واستقراء الواقع السياسي. وعلى القوى السياسية أن تؤمن “بلم الشمل” لا “الإقصاء”. فمثلا إقصاء حركة “الإخوان المسلمين” (وهي حركة أساسية في المجتمع) من المشهد السياسي في مصر أو غيرها ومحاولة تجريم وجودهم الدعوي كجماعة، أو وجودهم السياسي كحزب، أمر خطير جدا، ذلك أن التعامل الأمثل مع المفاهيم والأفكار يكون بقوة الحجة والقدرة على المنافسة وليس بالإقصاء. ويؤكد الكاتب البريطاني (روبرت فيسك) مراسل صحيفة “الاندبندت” البريطانية في الشرق الاوسط “ان اقصاء الاخوان المسلمين وانصارهم من العملية السياسية أمر خطير ستكون له تداعيات سلبية على المجتمع المصري لانهم فصيل كبير ومن الطبيعي أن يكون لهم دور في العملية السياسية والا ستندم الحكومة على هذا الاقصاء لاحقا لان الاخوان وصلوا للحكم بطريقة ديمقراطية يدافعون عنها حتى الان”. مضيفا: “أعتقد ان وصم ملايين المؤيدين للاخوان بالارهاب أمر طفولي للغاية”. ونحن، في هذا كله، مع (فيسك).

في كل الثورات والحركات السياسية الراشدة في العالم، تجري مراجعة للمواقف والاحتمالات. هناك دائما حاجة إلى التقييم الصريح للمواقف ولا ضير في الإعلان عن التراجع عن بعضها إن هي لم تثبت صحتها أو لم تحقق الأهداف المرجوة. وفي هذا يقول الدكتور (رحيل غرايبة) في مقال بعنوان “القوى السياسية وضرورة المراجعة”: “وقفة المراجعة محطة ضرورية لجميع القوى السياسية بلا استثناء، من اجل الاسهام في التقويم الجمعي لما آلت اليه الاوضاع في الدول العربية والاسلامية، ومن أجل الاسهام في محاولة وقف الاقتتال الداخلي ووضع حد لحمام الدم الذي تغرق فيه عواصم العرب وحواضرهم الرئيسة في بغداد ودمشق والقاهرة، وعلى طريقها صنعاء وطرابلس وبيروت وغيرها ….”. وهذا، طبعا، دون تجاهل ما يشهد به البعض من أن التحولات في بلدان “الربيع العربي” تختلف إلى حد كبير عما شهدته دول في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وبعض الدول الإفريقية في العقود الثلاثة الماضية، وهو ما أكدته (كريستين لاجارد) مديرة صندوق النقد الدولي حين قالت في كلمة ألقتها في واشنطن قبل الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي، الأسبوع الماضي: “إن التحولات في دول الربيع العربي قد تكون الأصعب والأطول في العالم”.

علينا أن نتفق أن التشاركية، وليس الإقصاء، الحل الذي تحتاجه القوى السياسية العربية اليوم. ويقول الكاتب (عريب الرنتاوي) ردا على مقال الناطق باسم حزب “الإخوان في مصر” حزب الحرية والعدالة الدكتور (حمزة زوبع) والذي تطرقنا له في مقال الأسبوع الماضي، “(ليونة) الاخوان و(مراجعاتهم)”: “أياً يكن من أمر، فإن ما صدر من مواقف ومراجعات وما تبدّى من “ليونات” في مواقف الجماعة، يتعين النظر إليه، بوصفه يداً ممدودة من الجماعة، نأمل أن تقابل بيدٍ ممدودة من خصومها ومجادليها، فالجماعة ليست وحدها من قارف الأخطاء والخطايا، والمضي في “شيطنتها” أو “اجتثاثها” ليس خياراً أبداً، ولن تكون وحدها المتضرر منه وبه، فالضرر سيطاول الجميع، دولاً ومجتمعات و”الانتقال للديمقراطية”. إذن، لا بديل عن التشاركية، فهي نموذج سياسي يعزز دور المواطن، كل مواطن، ودور الحزب، كل حزب، في اتخاذ القرار السياسي والإقتصادي، ونجاح التشاركية هذه يكون – في الأغلب الأعم – عبر الانتخابات والتمثيل النسبي. فالانتخابات هي الأساس الجامع، ومنطقها هو المنطق الذي يجب أن يسود هذه الأيام، حيث المطلوب مشاركة الجميع للوصول إلى الوحدة، والنجاح في تجميع الطاقات. والمحافظة على الانتخابات الدورية والنزيهة (ونكرر الدورية والنزيهة) في أي نظام سياسي علامة صحة لذلك النظام، ومكون مركزي في ديمقراطيته، إذ تهدف الانتخابات إلى توفير آلية للتداول السلمي على السلطة وتقنين التنافس والصراع بين المجموعات السياسية في إطار الكيان السياسي الواحد. ومن هذا المنطلق، لا يوجد سبب يمنع الغالبية من السيطرة المرحلية (وليس الأبدية)، شريطة ألا تجد كتلة المعارضين نفسها مضطرة إلى الانسحاب من العملية برمتها.

إن التوصل إلى توافقات، أساسية وتفصيلية، بين الفرقاء السياسيين هو الضامن لنجاح أي إنتخابات – إن كان هدفها طبعا – بناء الوطن عبر تعزيز السلم الاجتماعي وإلغاء الأحقاد السياسية والطائفية وتنقية الأجواء. ذلك أنه حين تنطلق كل الأطراف، في تعاملاتها، على أساس هذا المبدأ عندها تتوفر المناخات الاجتماعية والأمنية والسياسية الملائمة للتوافق على ميثاق عمل ملزم، وهو المطلب الأول والأهم للخروج من أي مأزق أو أزمة يواجهها أي مجتمع أو دولة. أما الحل الآخر (الإقصائي)، فنتائجه رأيناها على الأرض، سواء اليوم في مصر وسوريا وفلسطين، أو في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي. بالمقابل، نحن لا ندعو إلى الليبرالية الكلاسيكية الغربية، ذلك أن المجتمعات العربية غير جاهزة لها بعد.

وعليه، نرى أن المرحلة الحالية، بظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمذهبية، تتطلب بروز “الحكومات الائتلافية الجامعة” التي أساسها الانتخابات ونتائجها، حينها لا يمكن لأحد أن يظن أنه يستطيع أن يحكم بنفسه دون الآخر وإلى الأبد!!! فالحكومة الائتلافية الجامعة أو وزارة الوحدة الوطنية الائتلافية تشترك فيها الأحزاب البرلمانية جميعها (أو غالبيتها الساحقة) كما هو الحال حين تتشكل، في أوقات الأزمات كحالات الحرب أو الأزمات السياسية أو الاقتصادية الكبرى، بحيث تقوم الأحزاب بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تحالف كبير إن لم يكن تحالف اجماع أو شبه اجماع. وهذه الأخيرة، في حالتنا الراهنة، تحقق أهدافا أكثر مما يتم غالبا عند تشكيل الحكومات الإتئلافية في البلدان التي يكون نظامها الانتخابي يعتمد مبدأ التمثيل النسبي، باعتبار أن الحكومة الائتلافية تقود إلى مزيد من التوافق في السياسة، أي أن الحكومة المؤلفة من عدة أحزاب (وغالباً ما تكون مختلفة فكريا وأيديولوجيا) يجب عليها الالتزام بالميثاق الوطني. كما أن الميزة الكبيرة الثانية تتمثل في أن الحكومة الائتلافية هي وحدها القادرة على “درء المفاسد، وجلب المنافع” في وجه التحديات المجتمعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تجابهها دول الوطن العربي الكبير.