“يهودية الدولة”: مرحلة عليا على سلالم العنصرية

معالم العنصرية الإسرائيلية في سائر أنحاء فلسطين، بما في ذلك أراضي فلسطين 48، ازدادت وضوحا عقب اندلاع انتفاضة الأقصى العام 2000 والمواقف التي أبدتها القيادات العربية في “الداخل” ضد قتل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومنذئذ، تصاعد طوفان العنصرية هذا في ظل إنزياح المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين المتطرف. واليوم تعاني الكثير من المدن والقرى العربية في أراضي 48 من شح الميزانيات التي ترصدها الحكومات الإسرائيلية على كافة الأصعدة مع ازدياد معدل الفقر والبطالة مقرونا بتصاعد الموجات العنصرية. وقد بدا هذا الأمر جليا خاصة حين أقفلت المؤسسات الإسرائيلية أبوابها في وجه الموظفين العرب. وأظهر استطلاع للرأي أجرته (كلية “كريات أونو” الإسرائيلية) أن “أكثر من 83% من أصحاب الشركات اليهود يرتعدون من توظيف الموظفين العرب رغم حصولهم على شهادات وألقاب جامعية عالية”. ويتفق مع ما سبق سياسة المؤسسة الإسرائيلية العنصرية في استهداف الأراضي العربية ومحاولات تهويد الجليل والنقب والمثلث ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وعدم السماح بتوسيع مسطحات البناء في البلدات العربية.. وغير ذلك كثير.

أما التعبير الأوضح والأحدث عن العنصرية الإسرائيلية فهو مقولة “يهودية الدولة”. ولقد حرص رؤساء الحكومات الإسرائيلية الأخيرة، بدءا من (أرئيل شارون) وانتهاء بـ (بنيامين نتنياهو) على ترديد المطالبة بـ “يهودية الدولة”. وهذا الجدل الإسرائيلي الداخلي حول طابع الدولة (توافق أو تناقض يهوديتها وديمقراطيتها) انفتح منذ طرح مشروع تحويل اسرائيل الى “دولة لكل موطنيها”. ومؤخرا، وضع على طاولة الكنيست مشروع قانون حاز في وسائل الاعلام الإسرائيلية على تعريف “الدولة القومية” قدمه رئيس الائتلاف الحكومي عضو الكنيست (ياريف لفين) ورئيسة كتلة البيت اليهودي عضو الكنيست (ايلات شكيد) بحيث يعطي أفضلية واضحة لهوية إسرائيل اليهودية على ديمقراطيتها بكل ما يتعلق بالقرارات القضائية المستقبلية!! وفي السياق، نقلت صحيفة “هارتس”، عن أوساط مقربة من رئيس الحكومة الاسرائيلية (نتنياهو) انه عبر عن غضبه من مضمون اعلان وزيرة القضاء (تسيبي لفني) اقامة لجنة لصياغة معادلة توفق بين يهودية اسرائيل وديمقراطيتها، أي صيغة معتدلة تناهض مشروع قانون تقدم به في الدورة السابقة رئيس “الشاباك” الاسبق عضو الكنيست من حزب “كديما” في حينه (افي ديختر) والذي نص على أن “دولة اسرائيل هي البيت القومي (للشعب) اليهودي وان تطبيق حق تقرير المصير القومي في اسرائيل هي خاصية (الشعب) اليهودي وحده”. ويؤكد هذا المشروع أن “(أرض إسرائيل) هي (الوطن التاريخي) (للشعب) اليهودي ولا يعترف بكونها “وطنا” لشعوب اخرى غيره (الشعب الفلسطيني)”. وفي بند لاحق، يتحدث المشروع عن النظام الديمقراطي لاسرائيل ويوضح التزامها بالحقوق الفردية لجميع مواطنيها!!!

من المعروف أن فكرة “يهودية الدولة” هي مدار خلاف بين المؤيدين والمعارضين للنشاط الاستعماري/ “الاستيطاني”. فالمعارضون يرون أن فشل “يهودية الدولة” يمهد الطريق أمام الحل الآخر: دولة ثنائية القومية، وما ينطوي عليه من مخاطر على “يهودية الدولة”. ولقد تعززت هذه المخاطر بما كشفته استطلاعات للرأي الاسرائيلي مؤخرا حين أكدت غالبية إسرائيلية معارضتها لاخلاء “المستوطنات” المنتشرة بالاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 حتى لو تنازل الجانب الفلسطيني عن حق العودة للاجئين واعترف بيهودية اسرائيل. ووفقا لاستطلاع نشرته صحيفة “معاريف”، يعارض “53% من الإسرائيليين اتفاقا يشمل التنازل عن السيطرة الأمنية على المدن الفلسطينية وانسحابات من الضفة الغربية واخلاء المستوطنات مقابل اعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية والتنازل عن حق العودة”. وتتعزز “المخاطر” على “يهودية الدولة” بقوة تغيير التركيبة الديمغرافية للسكان. فبحسب تقرير “جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني” بمناسبة إحياء ذكرى النكبة الـ “65” (معززا أساسا بتقرير دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية الصادر مطلع أيلول/ سبتمبر 2013) فإن عدد الفلسطينيين المقيمين حاليا في فلسطين التاريخية (ما بين النهر والبحر) قد بلغ حوالي 8ر5 مليون نسمة, في حين بلغ عدد اليهود حوالي 6 مليون. ومن المتوقع ان يبلغ عدد الفلسطينيين نحو 2ر7 مليون نسمة بحلول نهاية عام 2020 والإسرائيليين نحو 9ر6 مليون، وفق معدلات النمو الحالية. وأضاف التقرير أن عدد الفلسطينيين في أراضي الـ 1948 حوالي 4ر1 مليون نسمة، علما بأن عدد الفلسطينيين واليهود ما بين البحر والنهر سيتساوى في العام القادم 2014.

وبشكل محدود، يسعى (نتنياهو) إلى إشهار “يهودية الدولة”، مع إضفاء الطابع القومي عليها، لتصبح “دولة قومية (للشعب) اليهودي” حيثما وجد، سواء داخل دولة إسرائيل أو خارجها، والاعتراف بما يترتب على ذلك من حقوق. وكما ذكر، في أكثر من مناسبة، خلال حديثه عن الرفض الفلسطيني للاعتراف بـ “يهودية الدولة”، فإن “يهودية الدولة” تعني: “حق (شعب) إسرائيل على (أرض) إسرائيل”، وصولاً إلى القول أن الفلسطينيين “يرفضون الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، لكونهم يرفضون هذا الحق بالذات”. ولربما من أكثر الأمثلة الدامغة تدليلا على النشاط الإسرائيلي المحموم لترسيخ “يهودية الدولة”، كتاب المدنيات (الطبعة الجديدة) الذي أقرته وزارة المعارف الإسرائيلية حيث يشدد على طابع اسرائيل كدولة يهودية وربطها مع الديمقراطية، وحرف النقاش حول التناقض ما بين الدولة اليهودية والديمقراطية، خصوصا وأنه، في الطبعة الجديدة لكتاب المدنيات، تم حذف “دولة جميع مواطنيها”. أما الكراسة الجديدة التجريبية التي أضيفت للكتاب فتجبر الطالب العربي على تعلم أن “الشعب اليهودي لم يتوقف طوال ألفي عام من تواجده في المهجر عن الابتهال للعودة إلى أرض إسرائيل ليجدد حريته السياسية داخلها”. ويتصاعد الفجور بإرغام الطلاب العرب على تعلم “الحق التاريخي لليهود فيما يسمى “أرض اسرائيل” التي اكتملت فيه صورته الروحانية والدينية والسياسية، والتركيز على التزام اسرائيل إزاء يهود الشتات والعلاقة المتبادلة بينهم وبين اسرائيل”. اما العرب في “البلاد”، حسب الكراسة الجديدة، فهم “أبناء الأقليات” من بدو ودروز وعرب، أي أنها أخرجت البدو من القومية العربية ووضعتهم بقومية خاصة بهم (كما فعلوا سابقا مع الدروز) وبذلك بقي تحت لواء القومية العربية المسلمون والمسيحيون فقط!!! وفي الكراسة الجديدة، لا ذكر للفلسطينيين قبل عام 1948، حيث يبدأ التاريخ بعد 1948 دون الإشارة للنكبة. وعليه تؤمن إسرائيل بأن اللعب على التمسك بـ “يهودية الدولة” هو ضمانة لها في وجه أي مطالب مستقبلية يطرحها الفلسطينيون لجهة حق العودة، فضلا عن كونها ضمانة لعدم ذوبان إسرائيل في المحيط العربي على ضوء المعادلة الديمغرافية التي تميل مع قادم الأيام لصالح الفلسطينيين في فلسطين التاريخية.