حتى لا تبقى “مفاوضات السلام” في ثلاجة الغرف المغلقة

يتزايد اقتناع المجتمع الدولي بتحمل الحكومة الإسرائيلية الحالية بزعامة (بنيامين نتنياهو) مسؤولية انسداد أفق عملية التسوية نتيجة رفضها الوقف الشامل للنشاطات الاستعمارية/ “الاستيطانية” والتفاوض على أساس حدود 1967، وأنه من العبث التفاوض على الحدود في حين يعمل الاحتلال على استكمال أهدافه التوسعية. هذا، عدا عن المقارفات اليومية ذات الطبيعة الإذلالية للمفاوض الفلسطيني ولغيره وذلك من خلال قتل المواطنين الفلسطينيين (في مخيم قلنديا مثلا) واعتقال العديدين في شمال الضفة الغربية بخاصة وانتهاك حرمة المسجد الأقصى والحرم الشريف.. الخ.

يقول (نيكولاوس فان دام) السفير الهولندي لعدد من الدول العربية والأجنبية: “دعونا لا نكون من السذاجة بحيث نتوقع أن تكون إسرائيل مستعدة للانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في العام 1967، على الأقل ليس من دون ضغوط هائلة من الخارج. فقد أرادت إسرائيل منذ البداية فلسطين كلها. وكان لها هدف تأسيس دولة يهودية هناك، والتي يفضل أن تكون بأقل عدد ممكن من العرب يعيشون داخل حدودها. ويجري النظر إلى العرب الفلسطينيين في إسرائيل باعتبارهم مشكلة: لقد “تورطت” إسرائيل، كما كان حالها، مع العرب في فلسطين، لأن إسرائيل لم تنجح في مرحلة مبكرة من تطهير فلسطين كلها عرقياً من العرب الذين كانوا يعيشون هناك طوال عصور”. ويضيف: “يتوقع العالم الخارجي عموماً من إسرائيل والفلسطينيين التوصل إلى حل عن طريق المفاوضات المتبادلة، لكنه يميل إلى تجاهل أننا نتعامل مع طرفين غير متكافئين تماماً: هناك المحتلون الإسرائيليون بالغو القوة الذين يمسكون بكل الأوراق، وهناك السكان الفلسطينيون الواقعون تحت الاحتلال، الذين هم ضعاف إلى حد كبير ولا يستطيعون حماية حقوقهم الأساسية”.

في ضوء ذلك، تبرز حاجة الفلسطينيين لمباشرة المجتمع الدولي اعتماد أساليب الضغط المناسبة لإلزام إسرائيل على الإيفاء بواجباتها الدولية بالتوازي مع مسار المفاوضات، وذلك ضمن مهل زمنية محددة يتفق عليها. فالمتفائلون يرون أن هناك أملا في نجاح أسلوب الضغط الغربي على إسرائيل. ويقول السفير الإسرائيلي السابق لجنوب أفريقيا (إيلان باروخ): “إن الضغوط الدبلوماسية من قبل أمريكا والضغوط الدبلوماسية والاقتصادية معا من قبل أوروبا، جنبا إلى جنب مع المبادرة العربية للسلام، قد تحقق التوزان بين أصول التفاوض لتتوج المفاوضات بالنجاح الذي طال انتظاره”. وحتى اللحظة، لا يبدو من وقائع التفاوض أن إسرائيل تفاوض بجدية ويبدو أنها تحاول ملاعبة الفلسطينيين فقط، بل والتلاعب بهم، واستدراجهم لاستنزاف كل طاقاتهم التفاوضية دون مضمون حقيقي. أيضا، “إسرائيل” غير جادة في “بناء جسور الثقة” بينها وبين الفلسطينيين التي دمرتها انتهاكات الدولة الصهيونية العنصرية والاحتلالية. فالتفاوض على أرض مليئة “بالمستوطنات” و”المستوطنين” (وهم في تزايد مستمر: 650 ألف مستوطن حاليا) منحوا صلاحيات شق الطرق واقامة سكك الحديد لربط “المستوطنات” بعضها مع بعض، وكذلك شبكة الطرق، يثبت أن الدولة الصهيونية معنية بفرض إملاءاتها وبالتالي لن تسمح بإحراز أي تقدم في المفاوضات وستبقى تناور كسبا للوقت دون التركيز على الإنجاز.

في ظل هذه المقارفات الإسرائيلية، أصبحت الخطوات المقابلة الفلسطينية أمرا ضروريا بل سياسة مشروعة وطنيا. ومن الأولويات الملحة: الانتقال إلى مباشرة المقاومة الشعبية بعد التخطيط المحكم والإعداد الشامل والتنفيذ المنضبط وذلك في إطار مصالحة فلسطينية حبذا لو تنهي الإنقسام أيضا. ويتوازى مع هذا إصرار على العودة إلى رحاب مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وطلب الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود حزيران 1967 والقدس عاصمتها، ومساعدتها للخلاص من الاحتلال و”الاستيطان”. فمن حق القيادة الفلسطينية أن تتسلح مجددا بقرار التقسيم (181) الذي قامت بموجبه دولة اسرائيل، والقرار الدولي (194) الخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، والقرار (237) المتعلق بالقدس، وجميعها ربطت بين الاعتراف بالدولة الاسرائيلية مقابل الاعتراف بالحقوق والدولة الفلسطينية، وضمان عودة اللاجئين والتعويض عليهم. كما أنه مطلوب من القيادة الفلسطينية المطالبة بمعاقبة المؤسسات والمحاكم الدولية لإسرائيل باعتبار أن ممارساتها جرائم حرب وأعمال عنصرية ضد الإنسانية وانتهاك للقوانين والشرائع الدولية. بعبارة أخرى: الحرب الدبلوماسية الفلسطينية – الاسرائيلية ميدانها العالم أجمع. وعدالة المطالب الفلسطينية مستندة الى الشرعية الدولية. وحتى لا يبقى السلام في الغرف المغلقة، حبذا لو تتبنى القيادة الفلسطينية سياسة شاملة ودائمة للتعامل مع الأمم المتحدة ومنظماتها وأجهزتها المختلفة التي من المؤكد تمثل دفعة كبيرة للقضية الفلسطينية، خاصة وأن العالم منشغل الآن بمشاكل أخرى يراها للأسف أكثر أهمية.

 

لا يمكن للقيادة الفلسطينية أن تقبل تحول المفاوضات إلى ستار سياسي لتطبيق أوسع مشروع “استيطاني” على الأرض الفلسطينية المحتلة العام 1967، الأمر الذي يفرغ تلك المفاوضات من مضمونها. فحقا، لا يمكن الجمع بين المفاوضات واستمرار المقارفات الإسرائيلية على الأرض، مع إصرار الجانب الإسرائيلي على استمرار الدور الشكلي للولايات المتحدة الأمريكية في العملية السياسية، ورفض مراقبته للمفاوضات. من هنا، مطلوب من القيادة الفلسطينية توسيع استراتيجيتها لتشمل التفاوض ونضالات أخرى، دبلوماسية وغير دبلوماسية، تعيد لها هيبتها واحترامها لدى جماهير الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والمسلمة. وطالما أن المفاوضات مفروضة علينا، لا بد لنا أيضا من المسارعة إلى التسلح بالمقاومة الشعبية وتنميتها وتطورها، مع تعزيز العودة إلى المعركة الدولية الدبلوماسية، ودون ذلك فلن تقيم إسرائيل أي وزن للمفاوض الفلسطيني ولن تشعر بأية ضغوط تجبرها على مجرد التفكير بتلبية الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني. لذا، لا بد من التحذير من أن ترك مسألة المفاوضات برمتها تحت رحمة الشروط الاسرائيلية والتفاوض العبثي، سيؤدي الى إفساح المجال لتهويد ما تريده “إسرائيل” من أرض فلسطينية. وقبل هذا وذاك، وقبل أي شيء، تبرز الحاجة الملحة لإنهاء الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني واستعادة الوحدة لانقاذ المشروع الوطني وتطوير الأدوات الكفاحية الشعبية لمواجهة الاحتلال، ومن ثم الخروج النهائي من متاهة المفاوضات العبثية واعادة ملف القضية الفلسطينية برمته الى الامم المتحدة.. وغيرها.