في مديح التجربة اللبنانية؟!

إن أكبر نتيجة سلبية، في سياق ما أطلقته “الثورات العربية” الدائرة منذ أكثر من عامين، هو سقوط نموذج التعايش، والتأكيد على كشف حقيقة أن المجتمعات العربية كانت، في الأصل، مفخخة تعاني من انقسامات مختلفة العناوين (إثنية ودينية ومذهبية وجهوية وقبلية وغير ذلك) برزت بوضوح جلي منذ فترة وهذه الأيام! وكانت هذه الانقسامات، أيام “الديكتاتوريات” و”أنظمة الاستبداد”، مطمورة تحت سطح ما يمكن تسميته “طنجرة ضغط” سياسي ما لبث أن ساهم الضغط الغالي في انفجارها واندفاع “العفن” الراكد طويلا فيها وظهوره على السطح بشكل فاضح!.

السؤال الهام، كما يطرحه كثيرون اليوم: ما بال “الحرية” اليوم جاءت بالفوضى وبالقتلى والجرحى والاعتقالات؟!! وغير ذلك كثير؟!! بل، ما بالها جاءت بما هو أخطر من هذا وذاك: الحرب الطائفية؟! التي تنذر بتوسيع نطاق الحريق وتفجير الوضع الإقليمي.. سوريا.. لبنان.. العراق وغيرها؟!!! إن إنجاز العيش المشترك، في ظل تعدد الطوائف والمذاهب، مسألة ليست بالسهلة. وربما يكون لبنان هو أوضح مثال على ذلك منذ عقود طويلة مضت. فالفرقاء اللبنانيون لطالما توصلوا إلى صيغ معينة من التوافق/ الاتفاق الوطني، بل إنهم أعادوا مؤقتا السلم الأهلي إلى الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان بعد حرب أهلية بدأت في 1975 وانتهت في 1989. لكن، للأسف، لم تدم حالة السلم الأهلي في لبنان طويلاً، بالرغم من كل الاتفاقيات والنوايا الحسنة كون الاتفاقيات الوطنية اللبنانية رسخت الطائفية السياسية، سواء في اتفاقية الميثاق الوطني عام 1943، أو اتفاقية الطائف عام 1989، واللتان لم تنجحا في حل مشكلة الطائفية السياسية في لبنان، بقدر ما كانتا نوعاً من العلاج المؤقت. ولبنان اليوم قائم على حالة من التوازن السياسي الطائفي غير الثابت. لذا، يبحث الجميع في ذلك البلد الجميل عن مواقع جديدة في شبكة التوازن الطائفي البشع، وهو الأمر الذي لطالما سبب غليان الأوضاع في البلاد أكثر من مرة وصلت حد الاشتباكات الطائفية الدموية الجزئية. وكم من المرات تم نشر دعوات ومناشدات التحذير من “لبننة” أو “صوملة” هذا البلد أو ذاك، غير أن واقع الحال العربي هذه الأيام يغري المرء بالهتاف للتجربة اللبنانية وإعلان الإعجاب بها من زاوية كونها “أقل سوءا” مما يبدو عليه الحال في أكثر من بلد. فعلى الأقل ثمة جوانب عدة، في التجربة اللبنانية، تستحق الإعجاب والمديح دون أن نرى ذلك في انحطاطات عربية ماثلة للعيان هذه الأيام.

اليوم، مع فشل النخب العربية الحاكمة الجديدة في الاتفاق على آليات تقود مجتمعاتها إلى دولة القانون القائمة على المواطنة والمساواة التامة، تعززت الولاءات الطائفية وكذلك المذهبية وغيرها. حتى الدولة القطرية التي كانت هي الغاية والمنتهى عند البعض، بدأت بالتفكك حين غزت العقول مفاهيم وتوجهات مريضة. ففي الأمس، كان العراق والصومال، واليوم سوريا واليمن والسودان ولبنان ومصر والبحرين. وفي العالم العربي اليوم، تتعدد مظاهر الاحتقان والتنفيس عنه بالعنف. الآن، ينحدر الطائفيون العرب في واد غير ذي زرع. فبدلا من الصعود إلى تأسيس الدولة الوطنية (كي لا نتحدث عن الدولة القومية، يا حسرتي!!) وجدنا أنفسنا نمضي هابطين في المستنقعات البدائية للطائفية بل وللمذهبية. وطبعا، ما كان لهذا ان يكون/ يتعزز لولا حالة الانحطاط الشامل (ثقافيا، وسياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، واعلاميا، وطبعا فكريا) الذي أصابنا بفضل “السوس” الذي ينخر عقلنا وخطابنا الفكري/ السياسي أولا، وبفضل “الترحيب” والتعزيز الامبريالي – وبخاصة الصهيوني – لسيادة وهيمنة “المنطق” الانحطاطي ثانيا.

العنصرية والجهوية والطائفية وغيرها من “أشكالها” لا تبني الأوطان. ذلك أن الأوطان تبنى بإرادة العيش المشترك في حاضنة ثقافية متجانسة تتسامى فوق أي اختلافات/ اختلالات طائفية أو مذهبية أو عرقية أو اثنية.. الخ. ومعروف أن الوسائل القانونية والممارسات المواطنية الانحياز وحدها الكفيلة باحتواء أي توتر طائفي أو مذهبي وضمان حقوق الأقليات. فالدساتير والممارسات العربية العتيدة بعد “الثورات” لم تتضمن ممارسات أساسية كانت قد غيبتها الأنظمة الديكتاتورية السابقة: فصل السلطات، المساواة بين الأفراد أمام القانون وعدم التمييز بينهم على أساس العرق أو الدين أو الجنس، والأمة مصدر السلطات، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص كضمانة أساسية لتوفير حياة كريمة للأفراد تحمي حقوقهم وحرياتهم المختلفة وفي مقدمتها حقوقهم السياسية المتمثلة في حرية الرأي والتعبير وتأسيس الأحزاب السياسية وتكوين الجمعيات، وحقهم في الانتخاب والترشح في انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة.

إن تعدد واختلاف الأعراق والثقافات والديانات والطوائف واللغات لا يعيب أي مجتمع. بل إن مجتمعات، استوعبت تعدد واختلاف الشرائح والمجموعات لديها، تمكنت من جعل ذلك التنوع مصدر قوة لا ضعف. أما عجز الدولة الوطنية العربية عن معالجة قضية المواطنة، وتفاقم الاختلال في علاقة الدولة بمواطنيها، ينبئ بالغرق في دوامة مزيد من الصراعات الاثنية والعرقية والمذهبية والطائفية والمناطقية!! لذا، لا خيار أمام القيادات العربية الجديدة سوى تأسيس مجتمعات تعترف بحقوق الأقلية على أيدي الأكثرية. صحيح أن الطائفية (ومثيلاتها من الأمراض المجتمعية) لن تختفي عندئذ تماماً، ولكن عندها ستتحول بالتأكيد إلى مشكلة اجتماعية بحتة. ومن أسف شديد تحدث تقرير لمعهد “بروكينجز” الأميركي في نيسان/ إبريل الماضي عن أن “الصراع بين السنة والشيعة أصبح يحتل مكانة متقدمة على صراع العرب والمسلمين ضد الهيمنة الغربية، بل أصبح متقدما أيضا على أولوية القضية الفلسطينية، التي لم يعد كثيرون في العالم العربي يهتمون بها”. وخلاصة القول أننا، هذه المرة، نتفق مع ما كتبه الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان): التخلص من هذا الميراث سيحتاج إلى ما هو أكثر من الإطاحة برؤوس هذه الأنظمة. سيحتاج إلى ثقافة التعددية والمواطنة. وحتى يتحقق هذا، ستظل القبيلة تخشى غيرها من القبائل في ليبيا، والطائفة تخشى غيرها من الطوائف فى سوريا والبحرين، وسيظل العلمانيون والمسيحيون على خوفهم من الإسلاميين فى مصر وتونس، وستبقى فلسفة (الحكم أو الموت) منافسا شرسا لمبدأ (رجل واحد، صوت واحد)”.