الصهيونية وأطروحة “العداء للسامية”: سلاح ذو حدين
منذ نشأتها، زعمت الحركة الصهيونية، أن “مصيبة” الذوبان في المجتمعات الكبيرة والاضطهادات التي عصفت باليهود سببها وجودهم في المنفى، وأن الحل الوحيد هو تجميعهم في فلسطين. ولكن وبعد مرور (65) عاما على قيام إسرائيل، ما زالت أغلبية يهود العالم تعيش خارجها. ففي الولايات المتحدة وحدها، يعيش أكثر من 6 ملايين يهودي. كذلك ما زالت تعيش في بلدان أخرى طوائف يهودية يقاوم كثير من أبنائها الهجرة لإسرائيل. والحال كذلك، تجد الحركة الصهيونية نفسها دائما بحاجة إلى العودة للعب على وتر “العداء للسامية” لتحفيز يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين، خاصة وأن تجميع يهود العالم في “أرض إسرائيل” كان اللبنة المركزية في الحلم الصهيوني الذي حولته ظاهرة “الهجرة المعاكسة” من الدولة الصهيونية إلى البلدان المختلفة إلى مجرد حلم بعيد المنال.
لطالما اعتبرت الحركة الصهيونية أن اليهود ينتمون وحدهم للجنس السامي، فارتكزت في دعوتها على الجنس ونقاء العنصر (للشعب اليهودي). لهذا، أصبح أي اضطهاد أو اعتداء على اليهود عداء للسامية. ومن لا يعترف بظاهرة “معاداة السامية” (ببعدها السامي الواسع وبعدها اليهودي الضيق) مكابر!!! ومن لا يعرف عنها جاهل!!! وقد اعتبر معظم قادة الحركة الصهيونية عداء العالم لليهود عداء للصهيونية، بمعنى أن معاداة السامية تساوي معاداة الصهيونية. فمثلا، يذكر (ثيودور هرتزل) في مذكراته :”أنه يؤمن كلية بأن معاداة السامية تعتبر حركة بالغة الفائدة بالنسبة لتطوير الذاتية اليهودية”. من هنا، يتم دوما إحياء “العداء للسامية” من أجل تشجيع الهجرة إلى فلسطين، وهو أمر نجحت فيه إسرائيل على وجه الإجمال. بل باتت “معاداة إسرائيل” تعني “معاداة للسامية” ومعاداة لليهود كأقلية دينية وعرقية!! إذن، هناك توظيف للابتزاز بتهمة “معاداة السامية” لمصلحة صب الماء في طاحونة الدعوات المتكررة لهجرة يهود العالم.
لقد أفاد تقرير نشرته جامعة تل ابيب بالتزامن مع الاحتفالات السنوية لتكريم من يسمون بـ “ضحايا المحرقة” (الهولوكوست) ان أعمال العنف المعادية للسامية في العالم ارتفعت بنسبة 30% العام 2012. وهذا التقرير الذي أحصى 686 عملا معاديا للسامية في العالم العام الماضي، مقابل 526 للعام 2011، كشف أن “زيادة كبيرة في مستوى العنف واعمال التخريب ضد يهود سجلت العام الماضي”. وشهدت فرنسا أكبر عدد من هذه الممارسات بحيث وصلت الى 200، تتبعها الولايات المتحدة 99، وبريطانيا 84، وكندا 74. ويرى التقرير ان تزايد أعمال العنف المعادية للسامية في فرنسا مرتبط بقيام الشاب الفرنسي من اصل جزائري (محمد مراح) في اذار/ مارس 2012 بقتل ثلاثة اطفال يهود ومدرس في مدرسة يهودية في تولوز، قبل ان تقتله الشرطة. وجاء في التقرير ان “هذا الهجوم أحدث موجة من أعمال العنف ضربت أهدافا يهودية خصوصا في فرنسا”. ويعتبر التقرير ان التنظيمات اليمينية المتطرفة تستغل المشاكل الاقتصادية في اوروبا لتسويق برامجها “المعادية للسامية بامتياز”، معربا عن الاسف لقيام “ممثلين لاحزاب يمينية متطرفة في المجر واليونان واوكرانيا بالتشجيع ضد المجموعات اليهودية المحلية حتى داخل البرلمانات”.
والحال كذلك، ما زال الاحتلال الإسرائيلي يمارس بطشه مسخرا أقلاما مأجورة في كل مكان تروج لمقارفاته بحق الشعب الفلسطيني بحجة الدفاع عن النفس، فيما يقف (كثيرون) ضد الغوغائية الصهيونية، ليكشفوا زيف الدولة الصهيونية ويطالبوا بوقف (البروبوغندا) الإسرائيلية الكاذبة. في هذا السياق، أعد مركز “سيمون ويزنتال” المتخصص برصد الجماعات والأحداث المعادية للسامية والمعارضة أو “المسيئة” لإسرائيل لائحته السنوية للعشرة الأوائل لمن تصفهم بـ”أسوأ المعادين للسامية”. وإن استثنينا الدول والأحزاب، وركزنا على الأفراد، يظهر أن في لائحة العام الحالي، حلت جماعة الإخوان المسلمين المصرية على رأس القائمة بسبب عبارات وتصريحات للمرشد الأعلى للإخوان المسلمين في مصر (محمد بديع) الذي أوصى بالجهاد المقدس للتخلص من سيطرة اليهود على الأرض وإفسادهم فيها. واحتل فنان الكاريكاتير البرازيلي المتعاطف مع الفلسطينيين (كارلوس لطوف) المركز الثالث في اللائحة لأسوأ المعادين للسامية، وذلك بسبب رسومه التي أظهر أحدها رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) وهو يعصر طفلة فلسطينية شهيدة فتسيل منها أصوات انتخابه إلى صندوق الانتخابات. وكان (لطوف) قد نشر عدة رسوم كاريكاتيرية تربط بين العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وإعادة انتخاب (نتنياهو) باعتبارها أداة انتخابية رفعت من أسهمه وشعبيته داخل المجتمع الإسرائيلي. كما وضع “المركز” النرويج والأسرة الحاكمة فيها في المركز الثامن بعد تكريمهم للفيزيائي المسلم (تروند علي لينستاد)، الذي كان قد دان انتشار التأثير اليهودي. وفي المركز التاسع، جاء الناشر الألماني (ياكوب أوغستين) الذي، في مقاله المنشور في مجلة دير شبيغل، اتهم (نتنياهو) باستغلال اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، علاوة على الماضي النازي في ألمانيا، لإبقاء العالم محتقناً. وفي المركز العاشر، جاء الزعيم الأميركي المسلم (لويس فرخان) الذي اقتبس عنه قوله في تشرين أول/ أكتوبر الماضي “أن اليهود يسيطرون على الإعلام.. لقد قالوها بأنفسهم.. في واشنطن، بجانب متحف الهولوكوست يوجد المصرف المركزي حيث تطبع الأموال.. هل هي مصادفة؟”.
لقد فضح المذكورون أعلاه أطروحة الصهيونية (“العداء للسامية”) وحولوها إلى سلاح ذي حدين. فهؤلاء يمتلكون وجهة نظر خاصة بما يدور حولهم في الحياة والكون بشكل عام، ويقفون إلى جانب القضايا الانسانية باستمرار (“الحرية، الديمقراطية، الحياة الكريمة”)، ويقفون في صفوف المعارضة وضد الأنظمة السياسية حيث ينتقدون أخطاءها ويشيرون إليها باتجاه الحقيقة دائما، فما بالنا بإسرائيل: دولة “الأبارتيد” العنصرية اليمينية الشوفينة. إن هذه النوعية من الشخصيات هي التي تخدم القضية الفلسطينية اليوم، عبر حركات التضامن الدولية، ذلك أن صوتها وإن كان مرفوضا لدى البعض فإنه مسموع لدى الكثيرين، هؤلاء الذين يعتمدون بطبيعة الحال مبدأ اللاعنف، باعتبار أن “العنف” يعطي مبررا للاحتلال الإسرائيلي للادعاء بان المقاومين الدوليين يعملون بشكل غير قانوني، الأمر الذي يحد من استمرار المقاومة. كما أن صوتهم المقاوم أحدث نقلة نوعية في الأصوات التي بينت للعالم حقيقة وقدسية وشرعية المقاومة الفلسطينية الحديثة كنموذج جماهيري يشارك فيه الجميع، نموذج متنام ومؤثر، حتى تحولت “حركة التضامن” إلى رديف يقاوم الاحتلال الإسرائيلي كونها حركة تؤمن بحقوق الشعب الفلسطيني ومن ضمنها: حقه في مقاومة الاحتلال.