تصريحات الرئيس الإسرائيلي: السم في العسل

كثيرون من الخبراء والسياسيين في “إسرائيل” والعالم الغربي يرون أن من مصلحة الدولة الصهيونية أن يستمر الوضع الراهن، مع تعميق الاحتلال “الاستيطاني” العنصري، وهو السيناريو الأسهل الذي تسعى “إسرائيل” بكل ما أوتيت من قوة اليوم لتطبيقه، مع استمرار محاولاتها لتكريس السلطة الوطنية الفلسطينية وتحويلها إلى وكيل إداري وأمني واقتصادي يخدم سياستها. لكن بعض السياسيين الإسرائيليين، الذين طالما اعتبروا من مؤيدي “السلام” و”حل الدولتين” – بغض النظر عن طبيعة الدولة الفلسطينية – يتحفونا يوميا بتصريحات تروج في العالم أن هناك أصواتا إسرائيلية تدعو لتحقيق “السلام” على الأرض، لكن في مجملها هي خلاصة نهج يؤدي إلى نفس الطريق الذي يتبعه اليمين المتطرف صراحة ويعبر عنه في سياساته على الأرض، أي فرض الأمر الواقع مستفيدا من الدعوات المتتالية والضغوط الدولية للعودة إلى المفاوضات مع تعميق العمل لخلق وقائع جديدة بقوة الاستعمار/ “الاستيطان” والتهويد والتطهير العرقي لجعل الدولة الفلسطينية (ضمن حدود مؤقتة) الخيار الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين في المفاوضات، أو حتى فرضه عبر ما يسمى  “الانفصال الأحادي الجانب”.

من هؤلاء الرئيس الإسرائيلي (شيمون بيريز) الذي طالما وجه “انتقادات” للقوانين العنصرية التي تقرها “الكنيست” (البرلمان الإسرائيلي) وإلى أعضائه من أحزاب اليمين الذين يبادرون دائما إلى طرح مشروعات قوانين عنصرية ومعادية للفلسطينيين، سواء أولئك الذين يعيشون في فلسطين 48 أو فلسطين 67، مشيرا إلى أنه “يخجل” بهذه القوانين، بل وصفها بأنها “مسيرة البلهاء”، مضيفا أنها “تخرب صورتنا وحسب”. ومؤخرا، في مقابلة نشرها موقع “يديعوت أحرونوت” الإلكتروني بمناسبة حلول الذكرى السنوية ال65 لإنشاء الدولة الصهيونية بموجب التقويم العبري، أكد متفائلا أنه “لا خيار أمام إسرائيل سوى التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، فلا أحد يمكنه العيش في الوضع المرحلي الراهن، وأن السلام مع الفلسطينيين سيتحقق خلال خمسة أعوام قادمة”، مضيفا: “إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس اختار السلام وأظهر شجاعة”. بل إنه أوضح “أن كافة الخيارات مفتوحة بما فيها العلاقات مع حركة حماس”، مطالبا البدء بفتح مفاوضات معها. بل تعدى كل ذلك، ليعلن: “الموقف الإسرائيلي من موضوع المصالحة يكمن في الخطر الأمني على إسرائيل، ونحن لا يوجد لدينا موقف ضد مصالحة ووحدة الشعب الفلسطيني، ولكن الخطر الأمني يكمن في حماس التي لا زالت تدعو إلى إزالة دولة إسرائيل عن الوجود، وهذا الأمر ليس شأن داخلي فلسطيني وإنما أمر خارجي ويهمنا نحن إسرائيل بالأساس”.

المشكلة في هؤلاء القوم وطروحاتهم، أنها تدغدغ الرأي العام العالمي فحسب، إذ هي طروحات مليئة بالسموم. فـ (بيريز) الذي يؤمن بضرورة تحقيق “السلام” مع الفلسطينيين، يشترط لذلك اعتراف الفلسطينيين أولا وقبل أي شيء بـ “يهودية إسرائيل”، ما يعيدنا إلى المربع الأول، بمعنى استغلال إسرائيل الأحداث التاريخية في سياق ما يعتبرونه “حق الوجود” لتبرير مطالبهم بـ “الدولة اليهودية الخالصة”. ولطالما كانت فكرة “يهودية الدولة” إحدى ركائز الفكر الصهيوني، لكن الثابت الان أن كافة الأطياف السياسية الإسرائيلية باتت تتحدث، في السنوات الأخيرة، عن “يهودية الدولة”. ومن الواضح أن هذا المصطلح بات يمثل – ولو تكتيكيا – جوهر ومضمون “الغايات الأسمى” لإسرائيل. بل ان مقولة الدولة اليهودية تحولت، بصورة غير مسبوقة، إلى القاسم المشترك بين مختلف التيارات والكتل والأحزاب والاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية في إسرائيل على حد سواء. لماذا؟ لان اسرائيل أدركت أن مصطلح/ مفهوم “يهودية الدولة” هو الشعار الأنجع لإنهاء مضمون القرار (194) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1948 الداعي إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين في أقرب فرصة ممكنة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم جراء إجبارهم على اللجوء القسري.

لقد حاول (بيريز) الدفاع عن رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو)، حين أعلن أن “الجميع يتحدثون عن حجم مساحة الكتل الاستيطانية وعن حجم المساحة التي سنضطر إلى إعادتها، وانطباعي هو أنه لدى نتنياهو موضوع المستوطنين أهم من المستوطنات، أي أن الأشخاص أهم بالنسبة له من الأرض نفسها”. وأضاف: “الكل يتحدث عن مشكلة المستوطنات والحقيقة المشكلة هي المستوطنين وليس الارض، وما يهمنا في هذا الموضوع هو المستوطنين وليس الارض، وما هي حجم الارض التي يجب التنازل عنها، بقليل من الخيال يمكن التوصل لحلول ممكنة على هذه الارضية”. ويوميا، يثبت للجميع بأن “الاستيطان” هو مشروع حكومة “نتنياهو” الوحيد، وأن إسرائيل تسعى من ورائه إلى خلق أمر، وفرض حل على الفلسطينيّين وفق خارطة “الاستيطان” الرامية إلى ابتلاع أكبر قدر ممكن من الأرض الفلسطينية وحشر الفلسطينيين في أقل مساحة ممكنة في مدنهم وقراهم، وتقطيع سبل عيشهم لخلق الظروف الآيلة إلى دفع جزء منهم للهجرة من وطنهم، وأن كل ما يطرحه (بيريز) أو غيره من دعاة “السلام” إنما هو مناورة سياسية، كما كانت وستبقى تفعل الحكومات الإسرائيلية السابقة.

في مقابلته الصحفية، كرر (بيريز) ذات المواقف الرسمية الإسرائيلية المتعنتة، مطالبا القيادة الفلسطينية، في جوهر أقواله، بالإذعان لإملاءات (نتنياهو) رغم محاولته إشاعة أجواء تفاؤلية وإطلاق نبوءته الجديدة بإحلال “السلام” في غضون السنوات الخمس القادمة، متجاهلا أن حقيقة أن إسرائيل دولة احتلال وأن ما هو مطلوب منها الانصياع أولا وأخيرا للقرارات الدولية، وأن مجرد مطالبة القيادة الفلسطينية الإقرار بـ “يهودية إسرائيل” يتناقض كليا مع مرجعية “عملية السلام” وقرارات الشرعية الدولية وإرادة المجتمع الدولي الداعية إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية بحدود 4 حزيران 1967، والتسوية العادلة لقضية اللاجئين. إذن (بيريز) لا يمانع في منح الفلسطنيين دولة “كانتونات”، أما مسألة “المستوطنات” وعودة اللاجئين والقدس فلا تختلف مواقفه المتشددة منها كثيرا عن مواقف الأحزاب اليمينية المتطرفة.

لن تقبل إسرائيل الراهنة، لا (بصقورها) ولا (بحمائمها) – إن كان ثمة حمائم – بأي حل “عادل” أو”شبه عادل”. ذلك أن ما يمكن أن “تقدمه” الدولة الصهيونية إنما يتلخص بإقامة نظام “فصل عنصري” تؤسس له وتسير نحوه حثيثا، بحيث يشطب “حق العودة” ويحافظ على الكتل الاستعمارية، مع مجتمع يفضل يهودية الدولة على ديمقراطيتها. فماذا نحن فاعلون بعد أن سقطت الأوهام بالسلام “العادل” واحدا بعد الآخر؟