الولايات المتحدة ورحلات (كيري) المكوكية

من الواضح أن الولايات المتحدة تتبنى خططا مرحلية جديدة في مساعيها لإنجاح “عملية السلام”. ويرى البعض أن استثمار الولايات المتحدة في “عملية السلام” سوف يؤتي ثمارا إذا نجحت في توجيه الصراع نحو الحل، وإذا اقتنعت أن الأمر ليس مجرد مفاوضات، بل وضع نهاية “عادلة” للصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتوصل إلى اتفاق “عادل” بين الطرفين يشمل القضايا الرئيسية. ولقد كان الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) محقا في أيار/ مايو 2011 عندما حث على “ضرورة أن تثمر المفاوضات عن حدود على أساس حدود 1967 مع الموافقة على تبادل الأراضي. ويجب أن يعرف الإسرائيليون والفلسطينيون من أين تبدأ دولة كل منهم وأين تنتهي”. كما أنه وخلال جولته من 20 الى 22 آذار/ مارس الماضي حث الطرفين على اختيار السلام لكن بدون ان يحدد طريقا للوصول الى حل الدولتين. لكنه انتقد الاستعمار/ “الاستيطان”.

يظهر أن هناك جهودا أمريكية جدية لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وربما مفاوضات عربية إسرائيلية شاملة، فوزير الخارجية الأمريكي (جون كيري) ماض في جهوده عبر زيارات مكوكية إلى المنطقة يقال أنها ربما تستمر للثلاثة أشهر المقبلة، وهو نفسه أي (كيري) أعلن أنه يعمل في اطار “استراتيجية بعيدة عن الاضواء” لتحريك عملية السلام في الشرق الاوسط، وبانه سيتجنب التسرع لدفع هذه العملية قدما، مؤكدا “أجري مشاورات حول مبادرات من شأنها تجاوز مشاكل الحذر، مبادرات ستتيح لنا البدء بعملية”. وأضاف: “أنا ملتزم بإيجاد حل، فنافذة حل الدولتين تغلق.. وكل الذين حاورتهم في المنطقة وفي العالم يلحون علينا أن نتدخل في جهود السلام، وكلهم قلقون بالنسبة للوقت”. وأضاف: “ما يصعب الأمر في السنوات القادمة هو الأعداد المتزايدة والقوة السياسية (المتنامية) للمستوطنين”.

إزاء ذلك، يبدو الارتباك على حكومة (بنيامين نتنياهو) والساحة الاسرائيلية بشكل عام. فهم، يصعب عليهم رفض الجهود الأمريكية، وهم يصعب عليهم دفع الثمن المطلوب منهم لقاء “السلام”. ويتكاثر الحديث في إسرائيل عن وضع مبادرة السلام العربية أساسا للتسوية، التي تسعى اليها الإدارة الأمريكية، خصوصا وأن قادة حركات السلام الاسرائيلية جمعوا مؤخرا مئات التواقيع لشخصيات سياسية من مختلف التيارات تدعو (أوباما) لإلقاء كامل وزنه لتفعيل هذه المبادرة. بالمقابل، نشرت صحيفة “هآرتس” تقريرا لمراسلها في واشنطن (حيمي شليف) يكشف عن تجند مئة شخصية أمريكية يهودية لصالح تأييد مبادرة السلام العربية. ومما قاله (شليف): “عشية عودة كيري الى القدس، أرسل نحو من 100 يهودي أمريكي بارز رسالة الى نتنياهو، يحثونه فيها على التعاون مع الإدارة الجديدة لدفع عملية السلام. وقد دعوا نتنياهو في الرسالة الى العمل مع كيري في صوغ “مبادرات براغماتية تعرض استعداد اسرائيل للتنازل وتقديم تضحيات إقليمية مؤلمة من أجل السلام”. من جهته، كتب السياسي المخضرم (يوسي بيلين) مقالا جاء فيه: “اذا كانت الادارة الأميركية قد أدركت انه لا يمكن التوصل فورا الى اتفاق دائم كامل فيجب عليها أن تحاول التوصل الى تسويات مرحلية في موضوعات التسوية المختلفة. وسيكون الاجراء الأسهل هو تحقيق المرحلة الثانية من خريطة الطريق التي تبناها الطرفان حينما أثارتها اللجنة الرباعية قبل عشر سنين. والحديث (هنا) عن إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة تكون حدودها مؤقتة”. أما الكاتب (جدعون ليفي) فدعا الرئيس (أوباما) لممارسة الضغوط على إسرائيل، إذ كتب في صحيفة “هآرتس” ردا على رئيس تحرير الصحيفة الذي قال لأوباما إن السلام يصنعه القادة المعنيون وليس قائدا يأتيهم من الخارج، فكتب (ليفي): “في وضع السكون والعمى في اسرائيل فان الأمل بضغط دولي هو الوحيد المعقول. صحيح ان هذا غير سليم من جهة ديمقراطية لأن التغيير كان يجب ان يأتي من الداخل الاسرائيلي. وصحيح ان العالم لا يفترض ان يؤدي دور اسرائيل. لكنه لن يظل أكثر من ثلاثة ملايين من الرعايا يعيشون بلا حقوق الى جانب دولة زاهرة. وسيتحطم هذا الوضع دفعة واحدة بطريقتين: الارهاب وسفك الدماء أو الضغط والقطيعة الدولية. والضغط أفضل”.

يقول (ناحوم برنيع) الكاتب المخضرم في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: أن “أوباما قد أحدث “اختراقاً” حقيقياً لدى الجمهور الإسرائيلي. فإذا كان يُعتبر عدواً قبل ذلك، فإنه يعتبر الآن أحد الأصدقاء. وحتى أولئك الذين ما يزالون يختلفون معه لا يعتقدون بأن لديه نوايا سيئة تجاه إسرائيل”. وفي مقال نشرته “نيويورك تايمز” بعنوان “إسرائيل: الجُزر لا تنجو من العاصفة” يقول (توماس فريدمان): “الفلسطينيون لن يتمكنوا من إدامة ذلك الضبط للنفس من دون وجود تحرك نحو إقامة دولة فلسطينية. إن أفضل وسيلة تتعامل بها إسرائيل مع الفوضى المحيطة بها هي عدم وضع رأسها في الرمال، وإنما التعاون مع الفلسطينيين لبناء دولة في الضفة الغربية، والتي تكون حديثة، علمانية وغربية النمط، واحدة يمكن فيها للمسلمين والمسيحيين واليهود أن يعملوا معاً، والتي تقف في تفنيد يومي لنماذج حماس/ الإخوان المسلمين الفاشلة في الأماكن الأخرى. لكن الإسرائيليين والفلسطينيين، إذا لم يحاولوا كل شيء -الآن- لتحقيق ذلك، فإنه سيتم تذكر ذلك، لا كفرصة ضائعة وإنما باعتباره الفرصة الضائعة (النهائية)، ولن تستطيع أي جزيرة الهروب من العاصفة التي ستلي”.

إن وضع سياسة أميركية قوية دائمة وشاملة، هو أفضل فرصة لإحداث تحول كبير في الشرق الأوسط. وهذا موقف أمريكي أكده (كيري) أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي حين حذر من أن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتمثل في حل الدولتين ربما لا يكون متاحا بعد عامين. وقال: “أعتقد بأن النافذة أمام حل الدولتين تغلق وأعتقد أننا لدينا بعض الوقت، عام، أو عام ونصف، أو عامين قبل أن تضيع الفرصة”. وختم: “بسبب رؤية الرئيس أوباما فرصة لحل الدولتين فقط فإن ثمة حاجة ملحة إلى هذا الأمر في رأيي وأعتزم، بناء على أوامر الرئيس، احترام هذه الحاجة الملحة وأن نرى ما يمكن فعله للمضي قدما”. وعود جميلة، فهل تتحقق هذه المرة بعد خيبات أمل متعددة سبق وذقنا مرارتها؟!