العدوان الإسرائيلي: ظروف مستجدة وأهداف متنوعة
من الواضح أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لن يثني الفلسطينيين عن محاولة إعادة إحياء حملتهم للحصول على وضع الدولة في الامم المتحدة واضعين نصب أعينهم “حل الدولتين” القاضي بقيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبا الى جنب مع إسرائيل. غير أن تحقيق هذا الهدف يزداد صعوبة مع مرور الوقت، فاليوم يقف قطاع غزة مجددا في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية مع استمرار النشاط الاستعماري/ “الاستيطاني” الاسرائيلي وتصاعد الاعتداءات على الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية، مع تأكيد فلسطيني بتلويح الإدارة الأمريكية مجددا بفرض عقوبات دبلوماسية ومالية على السلطة الفلسطينية (لا نظن أنها ستكون جدية لأسباب تتصل بالخلاف الأمريكي/ الإسرائيلي العميق ولو غير العلني) وذلك حال تقديم طلب العضوية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد سمح لاسرائيل بتقويض “حل الدولتين” الى درجة يمكن معها اعتبار أن هذه المحاولة هي الاخيرة للفلسطينيين لمحاولة انقاذ فرص “التسوية” و”حل الدولتين”. بل، ومع تعثر “عملية التسوية”، أصبح خيار الدولة الواحدة التي تضم فلسطينيين واسرائيليين يطرح على الطاولة مجددا أكثر مما كان عليه الحال في الماضي. وقد كتب (افراهام بورغ) الرئيس السابق للكنيست (البرلمان) الاسرائيلي مؤخرا في صحيفة “نيويورك تايمز”: “اعتقد ان اقامة دولتين جنبا الى جنب لشعبين يحترمان بعضهما البعض هو الحل الامثل. ولكن ان فوت قادتنا بقصر نظرهم هذه الفرصة فان نفس هذه المبادىء العادلة والمنصفة ينبغي تطبيقها على دولة واحدة (لشعبين)”. ويرى الكاتب الإسرائيلي (انتوني ليفنشتاين) ان “تقاسما عادلا للاراضي مع حق العودة للفلسطينيين (اللاجئين) مستحيل ولهذا السبب فان حل الدولة الواحدة بدأ يحرز تقدما. ان حل الدولتين مات وحان الوقت للنظر في البدائل”.
كلما بدا “الحل” قريبا، ظهر حجم الرفض الإسرائيلي لأي مسعى جدي. فقد نجحت إسرائيل في تجزئة الشعب الفلسطيني وتوزيعه على تقسيمات كبرى مستغلة الحواجز و”المستوطنات” والطرق الإلتفافية الخاصة “بالمستوطنين” لتحويل الضفة المحتلة الى معازل صغرى. وفي قطاع غزة، يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) لتوظيف العدوان الجديد في الانتخابات النيابية بعد أن نال إقرار مؤتمر حزبه “الليكود” لمشروع اتحاده مع حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة وزير الخارجية (أفيغدور ليبرمان). ولا يشكن أحد بحقيقة أن العدوان مرتبط فقط بالانتخابات من حيث التوقيت ومن حيث الأهداف. وسيكون من السذاجة اعتبارها فحسب ردا على إطلاق صواريخ من القطاع على إسرائيل بدأته بعض فصائل المقاومة الفلسطينية. بل الأمر في حقيقته يأتي أيضا في ظل أوضاع إقليمية معقدة، حيث أن العدوان يتصل كذلك بكونه نوعا من الرد المسبق على التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة لطلب التصويت على قبول فلسطين دولة غير عضو في المنظمة الدولية، وما يرتبه ذلك من اعتبار الأراضي الفلسطينية 1967 أراض محتلة من قبل إسرائيل، ما يعدّل قواعد التفاوض بين الجانبين عليها. وفي مقال بعنوان “سحاب فوق رؤوسنا” يقول (ناحوم برنياع): “تتصل العملية في غزة على نحو ما بطلب الفلسطينيين القبول بهم دولة غير عضو في الامم المتحدة. فيصعب على حكومة اسرائيل ان تصارع في الوقت نفسه في جبهتين بأن تُجند العالم لمواجهة أبو مازن بسبب التوجه الى الامم المتحدة وان تُجند العالم لمواجهة أعدائه في غزة. ومن الخلف توجد الجبهة الثالثة، ايران. فالحكومة تطلب الكثير من العالم ولا تستطيع ان تعرض شيئا”.
كما أن العدوان الصهيوني هذا يأتي في سياق التحدي الإسرائيلي لما يسمى نتائج “الربيع العربي” المتوقع أن تصب في غير صالح الدولة الصهيونية، ولتثبت إسرائيل للجميع أن ما تتحدث عنه مصر الجديدة مثلا ومدى استعدادها لتحقيق شعارات الحركة الشعبية تجاه دعم حقيقي للقضية الفلسطينية لا يعدو كونه كلاما فارغا. وربما هذا ما فرض ردود فعل مصرية حادة لم يجرؤ النظام القديم على اتخاذها. وفي هذا السياق، اعتبرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن “الصراع الأخير بين إسرائيل وحركة حماس يحمل طابعا مختلفا هذه المرة، فحماس باتت تختبر التحالفات في دول الربيع العربي”. وقالت “نيويورك تايمز”: “إن ما يميز الصراع الأخير لا يكمن في إعلان إسرائيل عن استخدام ضربات دقيقة، بل في جرأة حماس التي تستمدها من دول الربيع العربي”. وتابعت أن “القوات الإسرائيلية تقاتل الآن حماس الأكثر جرأة والمدعومة من قبل قوى جديدة في المنطقة مثل قطر وتركيا ومصر، مقارنة بالسلطة الفلسطينية المأزومة”. وختمت الصحيفة أن “هدف حماس ليس بالضرورة نصرا عسكريا بقدر ما هو دبلوماسي، ولا سيما أنها تختبر القيادة الإسلامية الجديدة في مصر وعلاقاتها في العالم العربي وخارجه”. ويقول (نيثان ثرول) من مجموعة الأزمات الدولية التي تعمل لمنع الصراع “الآن عندما تكون غزة تحت النيران، فإن الأصوات العالية لا تأتي مما يعرف بمحور المقاومة (إيران وسوريا وحزب الله)، بل من حلفاء الولايات المتحدة مثل مصر وقطر”. ويرى (ديفيد ماكوفسكي) من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن مصر باتت عاملا جديدا بالمنطقة، فيقول إن “حماس تأمل بأن توصل رسالة لإسرائيل مفادها: أنتم (الإسرائيليون) لا ترغبون في مضايقتنا بغزة لأنكم ستلحقون ضررا بعلاقتكم بالقاهرة”. وعلى الجانب الآخر، يقول (دان مرغليت) في مقال بعنوان “جُرأة في مقابل وقاحة حماس”: “ان الربيع العربي في الأساس يحمل على جناحه روحا سيئة، وقد جعلت سلطة الاخوان المسلمين في مصر حماس تراها درعا واقية تُمكّن هنية والجعبري من تصعيد العدوان مع افتراض ان اسرائيل لن تتجرأ وكان من المهم جدا ان تتجرأ، من هذه الجهة، ولولا ذلك لما توقفت وقاحة حماس وسائر المنظمات الارهابية عند مستواها الحالي الذي لا يُطاق بل كانت ستزداد وتسوء”.
لن تقبل إسرائيل، لا (بصقورها) ولا (بحمائمها)، بأي حل “عادل” أو”شبه عادل”. ذلك أن ما يمكن أن “تقدمه” دولة الاحتلال إنما يتلخص بإقامة نظام “فصل عنصري” تؤسس له وتسير نحوه بحيث يشطب “حق العودة” ويحافظ على الكتل الاستعمارية، مع مجتمع يفضل يهودية الدولة على ديمقراطيتها. لكن، هل تنجح إسرائيل في ذلك؟ ثم هل هي الدولة الوحيدة المقرّرة في عالمنا المعاصر، أم تراها باتت تتجاوز الحدود على كل الأصعدة؟