انتخابات بلدية أم “روابط مدن”؟!!
لا يعود العزوف العام عن المشاركة في الانتخابات البلدية في الضفة الغربية المحتلة إلى مقاطعة حركة حماس فقط، بل إلى شعور فلسطيني عام بالاحباط تعاظم في الوعي الفلسطيني على مر سنوات الاحتلال الطويل والانقسام المستمر. وكثيرون هم الذين يتذكرون نتائج الانتخابات السابقة التي لم تحترم، وكيف أقصيت مجالس محلية منتخبة بالقوة من مواقعها، مع كل ما قيل أو ثبت عن اعتقال الاحتلال الإسرائيلي وأجهزة السلطة الوطنية الفلسطينية بعض أعضائها المنتخبين، مع أزمة مالية خانقة في ظل تزايد البطالة والفقر، مع إفشال إسرائيل لأي محادثات “تسوية” واستمرار سرقة الأرض الفلسطينية والاستعمار/ “الاستيطان” وجدار الفصل العنصري والقتل والتدمير الاسرائيلي، بوجود سلطة لا تملك أي سلطة.
ورغم اعلان حركة فتح تحقيق فوز كبير في الانتخابات الأخيرة، إلا أن الدور الأبرز فيها كان للمستقلين مع ترسيخ دور العائلية والعشائرية خصوصا في الارياف، حيث أظهرت النتائج أن النسبة الأعلى للمشاركين في الانتخابات تركزت في المناطق الريفية التي تسيطر فيها المفاهيم العشائرية. وفي هذا السياق، اعتبر (عارف جفال) مدير مركز المرصد العربي للرقابة على الانتخابات ان “نتيجة هذه الانتخابات أظهرت توجها لدى الناس للابتعاد عن سيطرة الاحزاب، وخصوصا أن هناك قوائم انتخابية مكونة من مستقلين تمكنت من الفوز، كما جرى في طولكرم”. وأضاف: “باعتقادي ان المنتصر الاول في هذه الانتخابات تمثل بالمرشحين المستقلين والقوائم التي خاضت الانتخابات مستندة الى البعد العائلي”. بل إن (عمر رحال) الذي يدير مركزا للديموقراطية اعتبر من جانبه، أن “ارتفاع نسبة المشاركة في الريف سببه وجود العائلات وترابطها بشكل أقوى من المدن التي يقوم التحالف فيها على المصالح وليس على قرابة الدم، كما يحدث في القرى”. واشار الى التحالفات التي جرت بين حركة فتح وبعض الفصائل، موضحا ان هذه التحالفات “أيضا قامت على أساس البعد العائلي، ومثلت مزيجا بين العائلة والحزب”. كما كان الملفت غياب الشعارات القديمة من قبيل تحرير الارض والمقاومة، اذ ركز الناخبون على احتياجاتهم الآنية، أي الادارة اليومية للمواطنين، بمعنى آخر ذكرتنا البرامج الانتخابية المطروحة ببرامج روابط القرى سيئة السمعة والصيت.
إن إجراء انتخابات بلدية في الضفة الفلسطينية فقط هو – بمعنى معين – إقرار ضمني بانها كيان قائم بذاته وكأنه لا علاقة له بقطاع غزة. وإجراء انتخابات، سواء كانت بلدية أو تشريعية أو حتى رئاسية جديدة، في ظل الانقسام (رغم المبررات الميدانية والحياتية) سيرسخ بشكل فعلي الانفصال/ الانقسام بين جناحي الوطن. وإن كانت حماس امتنعت وخسرت المشاركة على الأقل، بحسب بعض المحللين، إلا أن حركة فتح التي خاضت الانتخابات كانت الخاسر الأكبر، ذلك أنها خسرت رئاسة بلديات كبرى، على رأسها، رام الله (العاصمة المؤقتة والإدارية والمركزية للسلطة الوطنية الفلسطينية)، ونابلس (الهرم الاقتصادي لفلسطين). ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح الوطنية (عبد الستار قاسم) أن النتائج تعدّ “فشلاً” لحركة “فتح” التي لم تلقَ قياداتها قبولاً عند الشعب الفلسطيني، وفق قوله. وقال (قاسم) في تصريحات صحفية، “إن أهم النتائج التي أفرزتها الانتخابات المحلية هي المشاركة الضعيفة من قبل المواطنين الفلسطينيين في العملية الانتخابية، وهو مؤشر على عدم اكتراثهم وعدم ثقتهم بالسياسيين والإداريين الفلسطينيين الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية”.
خلال لقاء نظمه المركز الوطني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجة – مسارات، في البيرة، تحت عنوان: “الخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب.. ما العمل؟”، طالب المشاركون في اللقاء بأن تكون هذه الاستراتيجية شاملة ومنسقة الأهداف والأدوات، وتوظف كل عناصر القوة المتاحة والكامنة لدى الشعب الفلسطيني وتزجها في مقاومة الاحتلال بمختلف الأشكال المشروعة وفق القانون الدولي، مع التركيزعلى المقاومة السلمية الشعبية، والعمل على تعبئة وتمكين الشعب في كافة أماكن تواجده. وقد حذرت تلك الشخصيات من خطورة إحلال المجالس البلدية بعد الانتخابات بدلا من السلطة، تحت شعار اعتبارها الأطر والهياكل الوحيدة المنتخبة في ظل تآكل شرعية مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير في غياب الانتخابات، وإمكانية العمل مع الهيئات المحلية وتوجيه التمويل الخارجي نحوها على هذا الأساس، لا سيما أن إسرائيل تحاول منذ فترة ربط المواطن الفلسطيني بما يسمى “الإدارة المدنية” الإسرائيلية، عبر إصدار التصاريح، وزيادة عدد العمال في إسرائيل في الآونة الأخيرة، بما يؤدي إلى إضعاف السلطة، وفقد ثقة المواطن الفلسطيني فيها.
من هنا جاء حديثنا وحديث غيرنا عن روابط القرى، وكلنا يذكر أنه في عام 1983 جهد الاحتلال الاسرائيلي لإيجاد قيادة بديلة عن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تم الاستعانة بمجموعة من المتعاونين مع الاحتلال لإنشاء ما سمي في وقته “روابط القرى” غير أن الشعب الفلسطيني أفشل الفكرة رغم أن “روابط القرى” تشكلت على الأرض، واهتمت بتقديم خدمات للمواطنين. من هنا تساءل مراقبون: ما الفائدة من انتخابات مجالها خدمي بالدرجة الأولى، في ظل أن الأرض كلها محتلة، والبلديات نفسها مقيدة ولا تستطيع التحرك بدون ميزانيات حكومية أو تبرعات دول مانحة؟! إذن، استنتج هؤلاء، ربما نحن نسير في اتجاه روابط القرى، لكن بخلق ما أسماه البعض “روابط المدن”: تقديم خدمات للمواطنين تحت رعاية الاحتلال دون مشاكل، وهذا ما تريده الدولة الصهيونية. هذا أولا. وثانيا، اتسمت الانتخابات، بحسب عدد من المراقبين والمتابعين ومؤسسات حقوق الإنسان، بتجاوزات قانونية مست أحيانا جوهر العملية الانتخابية، وهو أمر معاكس للانتخابات الفلسطينية، المحلية والنيابية، السابقة التي أبهرت العالم أجمع وأثنى على نزاهتها كل من شهدها وراقبها. يضاف إلى ذلك غياب التفاعل الجماهيري معها لا سيما في ظل مقاطعة حركتي حماس والجهاد الإسلامي لها ترشيحا وتصويتاً، حيث بلغت نسبة المقترعين (54،8%) ممن يحق لهم الانتخاب وفق ما أعلنه الدكتور (حنا ناصر) رئيس لجنة الانتخابات المركزية في الضفة.
لقد زادت الانتخابات البلدية من ضبابية المشهد السياسي الفلسطيني بحكم انكشاف الشروخ المتنوعة داخل حركة فتح، علاوة على الفشل في التوصل الى مصالحة بين فتح وحماس وحالة الجمود التي تهيمن على جهود مساعي التسوية مع اسرائيل. فما يحدث في الساحة الفلسطينية ليس فقط خلافات واشكالات بين سلطتين مختلفتين أيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا فحسب، بل هي أزمة صعبة ومعقدة تخص كل فلسطيني يغار على قضيته بعد أن بات مصيره وحقوقه الوطنية الثابتة في خطر شديد.