استهداف النسيج الجميل للأخوة المسيحية/ المسلمة

الوجود المسيحي في الشرق الأوسط لا يقاس بعدد المواطنين المسيحيين فيه. ولطالما تميز هذا الوجود بإنجازاته في تطوير المجتمعات العربية، إضافة إلى المساهمة الكبيرة في النضال ضد الاستعمار. والثابت، أن المسيحيين كانوا قبل الإسلام واستمروا معه جزءاً أساسياً من نسيج مجتمعاتهم العربية، لهم إسهاماتهم الجليلة في إنتاج الحضارة العربية الإسلامية، حتى اعتُبروا بوابة الإسلام ووسائطه على الغرب وحضارته. فلقد فتح الإسلام عينيه فوجد المسيحية العربية شريكة في الأرض والوطن والمصير. وهكذا فإن الانتماء إلى المسيحية هو انتماء أصيل، مثلما أن تحسس المسيحيين بمشاكل المنطقة هو تحسس كياني وليس طارئاً. وقد اشترك المسيحيون والمسلمون معاً فألفوا الأحزاب السياسية والحركات القومية ضد السيطرة التركية العثمانية، وأسسوا الأندية والجمعيات والحركات الأدبية والثقافية والدينية، واستشهدوا معاً في النضال. تشهد على ذلك مشانق دمشق وبيروت التي أقامها جمال باشا العثماني السفاح، إذ جرى اعدام المسيحيين والمسلمين على السواء، ذلك أنهم قارعوا الاستعمار الأجنبي الحديث مركزين على عروبتهم وعلى وحدة الانتماء والمصير المشترك.

اليوم، تشهد الأوساط المسيحية العديد من النقاشات بشأن تطورات ما قد يحدث بعد “الثورات العربية” ووصول الحركات الاسلامية في دول عربية رئيسة الى مواقع متقدمة في الحكم والمجالس البرلمانية، واندلاع حروب أهلية في أخرى. وبرزت في هذه الأوساط خلافات في وجهات النظر بين من يعتبر ان المطلوب دعم هذه “الثورات” بلا أي تحفظ لأن هذا هو موقف الدين المسيحي المبدئي الداعم للحريات وحقوق الانسان والرافض للاستبداد والديكتاتورية، وبين من يبدي تخوفاً من نتائج هذه “الثورات” ووصول الاسلاميين إلى الحكم ما قد يؤدي الى انعكاسات سلبية على دور وموقع المسيحيين في الشرق الوسط، مع تمييز الكثيرين منهم بين دور وموقف “الاخوان المسلمين” وبين “التيارات السلفية المتشددة”.

ونقول ونفصل: إن كان هناك مسيحيون ضحايا في المنطقة فذلك بفعل ردات فعل إسلاموية متعصبة لا تمت للدين الإسلامي، بل إن سببها هو الجهل وعدم التمييز بين المسيحيين العرب وبين الغرب وسياساته، مع التركيز على أن الكنائس الشرقية، ظلت منبوذة في نظر كنائس الغربيين لا لشيء الا لأن مسيحييها عرب أقحاح. وبطبيعة الحال، أسهمت “الأصوليات” الاسلاموية (وهي في الغالب الأعم “أصوليات” تجهل الدين والتاريخ معا) في تعكير صفو أجواء التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين المستمرة منذ 14 قرنا. فهل يعقل بعد هذا الزمن الطويل من التعايش أن تطرح “الأصوليات” الإسلاموية مسألة “مجتمع مسلم” أي بدون مسيحيين؟! هؤلاء، وبطرحهم تغييب المسيحيين، يجعلون العالم العربي يفقد ميزته كأمة ذات طبيعة قومية لا كمجرد مجموعة دينية. فالأمم الحديثة، حتى وإن كان الدين عنصرا حيويا في وجودها، فإنها إن قامت على أساس ديني تجد نفسها في حرب مع كل دين آخر. فضلا عن ذلك، مثل هذا “المنطق” يصب في فلسفة “دولة إسرائيل” القائمة، أساسا، على العنصرية البغيضة التي ترفض الآخر وتقصر الدولة على أبناء الدين الواحد فقط “اليهودي”. فهل يعقل أننا بتنا نطرح طرحا صهيونيا في التعامل مع الآخر؟!!!! وهل يعقل أن نتنكر للعروبة فنقع في مطب فلسفة الكيان الصهيوني؟!!!!

لقد وجد المسيحيون في المشرق العربي أنفسهم في مواجهة: أولا، عدم دمجهم سياسياً في دولهم أو الحفاظ عليهم كمعطى وطني. ثانيا، عدم دمجهم اجتماعياً في بعض مجتمعاتهم الإسلامية، أو عدم قبولهم مثل هذا الاندماج للحفاظ على ثقافتهم وشخصيتهم. ثالثا، الصراع بين الإسلام “الأصولي” وبين الغرب، وانعكاساته وتداعياته عليهم. كل ذلك، جعل ويجعل معاناة المسيحيين المحليين أعظم، ما يشكل عائقاً أمام تمتعهم بكامل حقوقهم كمواطنين متساوين بالمسلمين الذين أيضا أنكرت عليهم معظم حقوقهم. لذا في المحصلة، وعند الحديث عن عوامل طاردة للمسيحيين من منطقة الشرق الأوسط، يظهر لنا أن كثيرا من العوامل تؤثر كذلك على مسلمين يهجرون المنطقة، وحسبنا أن نعلم أن الفتنة التي تستهدف الأمن القومي العربي باتت صناعة يشترك فيها كثيرون: مخططون ومنفذون ناشطون داخليون وخارجيون، على رأسهم إسرائيل التي تجهد لتفتيت الدول العربية إلى دويلات على أسس دينية وعرقية. عندها يصبح من نافلة القول أن معاناة المسيحيين جزء من معاناة المنطقة ككل. فعلى سبيل المثال، فإن “التطرف الإسلامي” ليس موجها ضد المسيحيين فحسب، بل ضد أبناء الإسلام أنفسهم.

وإن اتفقنا على أن مثل هذه الاشكاليات ليست في تكوين المجتمعات العربية، يمكن إيجاز العوامل الطاردة المشتركة لدى كلا الطرفين: فكثير من المسلمين – أبناء الوطن يشعرون – كما المسيحيون – بالمواطنة المنقوصة أو المبتورة، كما يشعرون أيضا بغياب أو ضعف مبادئ المساواة والشراكة والحق في تولي الوظائف العليا من دون تمييز بسبب الأصل الاجتماعي. كما أن الأنظمة الشمولية التي لا تعرف معنى للحريات لا تفرق بين مسيحي ومسلم، فكلاهما يعانيان شحّ الحريات بشكل عام وحرية التعبير بشكل خاص، فضلا عن أنها أنظمة تغيب فيها الإرادة السياسية العليا التي تحترم حقوق الإنسان أو حتى تعرف معناها. وكما قلنا قبل ذلك، فإن العمليات الإرهابية لا تصيب المسيحيين فقط، “فالاسلام الأصولي” يحمل فوق أكتافه عقولا متحجرة وجاهلة لا يفرق بقنابله بين مسلم أو مسيحي. وما تزايد موجة استهداف المسيحيين بعد “الثورات العربية”، في جانب مهم منها، إلا بسبب تحرك قوى خارجية استغلت الانفلات الأمني وحركت عملاءها الداخليين – بدراية أو بغباء – لتستهدف المسيحيين لضرب النسيج الجميل/ “الموزاييك” الجميل في منطقتنا.

هجرة المسيحيين او المسلمين (بقوة التعصب الاسلاموي) على حد سواء من الشرق الأوسط تساهم في إفقار الهوية العربية وثقافتها وأصالتها. ومشكلة المسيحي العربي هي تقريبا المشكلة نفسها للمواطن الآخر (المسلم) والأمر في جوهره، حالة عامة ليس خاصا بطائفة أو فئة، وعلاجها شامل غير مجزء. ومن المهم أن يسارع قادة الرأي والسياسة “الجدد” إلى ترجمة عملية لإدراكهم بحقيقة أن الوجود المسيحي وجود عربي، والوجود المسيحي الذي يعيش بين ظهرانينا جزء من الشعب العربي الأشمل، وأن قضية العرب المسيحيين هي قضية مواطنة بالدرجة الأولى والأخيرة تقوم على قاعدة: “لا فرق بين مسلم ومسيحي إلا بالانتماء والعمل لصالح الوطن”.