الحفريات الإسرائيلية في القدس المحتلة

على مدى عقود أربعة من احتلالها للقدس الشرقية، أقدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تنفيذ سياسات واجراءات ممنهجة بهدف تقليص عدد السكان الفلسطينيين وتهجيرهم خارج ديارهم. وفي التقرير (العلمي المهم، وشديد التوثيق) من إعداد “دائرة المفاوضات” في منظمة التحرير الفلسطينية، تم رصد السياسات الاسرائيلية الأحادية في القدس الشرقية المحتلة والدعم المطلوب لمواجهة سياسية التهجير للإنسان والمؤسسات من “زهرة المدائن”. ولقد غطى التقرير هذه السياسات تحت عناوين أربعة بارزة تناولناها بالتفصيل في مقالات أربعة سابقة وهي: أولاً سحب الإقامة (بطاقات الهوية المقدسية) من المواطنين الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية. ثانياً: الإغلاق العسكري المفروض على القدس الشرقية المحتلة وبناء جدار الفصل العنصري حولها، ثالثاً: سياسة هدم منازل الفلسطينيين، رابعا: تطبيق قانون ما يسمى”أملاك الغائبين”. أما اليوم فنتناول العنوان الخامس والأخير: الحفريات الإسرائيلية في القدس المحتلة: (الآثار في خدمة الرواية التوراتية و”الاستيطان”). وفي هذا السياق، لفت التقرير إلى “أن أعمال الحفر الأثري في القدس، خاصة البلدة القديمة ومحيطها، تسير بوتيرة غير مسبوقة، تجاوزت ما تم حفره منذ منتصف القرن التاسع عشر”، مستعرضا أهداف الحفريات، والملخصة “بإحكام السيطرة على البلدة القديمة ومحيطها، وربطها بالقدس الغربية بحيث تصبح امتدادا عضويا لها، وتعزيز الاستيطان وتشبيكه داخل البلدة القديمة وخارجها، فضلا عن إحكام السيطرة على الحرم الشريف”.

لقد أصدرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تقريرا حكوميا، منتصف تموز/ يوليو 2012، اعترفت فيه للمرة الأولى بقيامها بأعمال حفريات في القدس المحتلة من شأنها تهديد مباني المسجد الأقصى. ودعا تقرير للمستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية (يهودا فاينشتاين) سلطات الآثار والسلطات المختصة إلى القيام بإجراء مراقبة منتظمة في محيط الحرم القدسي الشريف، للوقوف عن كثب على الأعمال الجارية فيه للتأكد من سلامة الآثار فيه، حيث طلب من سلطة الآثار التابعة للاحتلال الإسرائيلي رفع تقارير منتظمة عما يجري في محيط الحرم إلى مجلس الأمن القومي وسكرتير الحكومة. وشدد (فاينشتاين) على ضرورة التعامل بحذر فيما يتعلق بالأنشطة التي يجري القيام بها في المنطقة، نظرا للطبيعة الخاصة للموقع، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات البراجماتية للمنطقة. وبكل صفاقة، صرح (فاينشتاين) قائلاً: “إن الحرم القدسي هو جزء لا يتجزأ من أراضي إسرائيل، ولذا ينطبق عليه القانون الإسرائيلي، ولا سيما قانون الاثار وقانون التنظيم والبناء”.

إن خطط إسرائيل التهويدية للقدس بعيدة المدى، وترمي إلى إعادة تشكيل كل مكونات الأماكن الدينية والتاريخية في المدينة لتتفق مع الرواية الإسرائيلية والتوراتية. وفي هذا النطاق، قالت “مؤسسة الأقصى للوقف والتراث” في بيان صدر مؤخرا “أن الاحتلال الاسرائيلي ينفذ أكبر حملة حفريات أسفل وفي المحيط الملاصق للمسجد الاقصى المبارك، وأن هذه الحفريات تتزامن مع حملة تزييف غير مسبوقة للموجودات الأثرية بهدف إيجاد مدينة يهودية مزعومة في جوف الارض وعلى سطحها في محيط المسجد الأقصى”. وجاء في البيان: “بناءً على اعترافات من أذرع الاحتلال وأبواقها الاعلامية في الفترة الأخيرة، (يتضح) أنها تنفذ في هذه الأثناء أكبر مشروع حفريات عند المسجد الأقصى منذ 150 عاماً، وأن السنوات العشر الاخيرة شهدت تزايداً غير مسبوق في الحفريات الملاصقة للمسجد الاقصى”. وأضافت “مؤسسة الأقصى”: “حملة الحفريات الاحتلالية الكبيرة المذكورة تركز على ثلاثة محاور، أولها حفر شبكة من الأنفاق أسفل وفي محيط المسجد الأقصى المبارك، المحور الثاني تأسيس حيّز إفتراضي تضليلي لمدينة يهودية في عمق الأرض وعلى سطحها في المنطقة الملاصقة والمجاورة للمسجد الأقصى، أما المحور الثالث فهو تزامن الحفريات المذكورة مع حملة تدمير ممنهجة للموجودات الاثرية التاريخية الاسلامية والعربية يوازيها حملة تزييف وتهويد للموجودات الأثرية وادعاء باكتشاف غير مسبوق لموجودات أثرية عبرية من فترة الهيكل الأول والثاني المزعومين”.

وبالعودة إلى التقرير العلمي ذاته، نلحظ تركز أعمال الحفريات بأشكالها المختلفة ضمن الإطار الجغرافي الذي سمته إسرائيل بـ”الحوض المقدس”، والذي يشمل البلدة القديمة والمنطقة المحيطة بها. وتتضمن الأعمال المختلفة: حفريات مفتوحة، حفريات إنقاذ، حفريات أنفاق، إعادة تأهيل، وإعادة تركيب، وترميما، وإعادة تسمية المواقع والشوارع والأراضي والوديان والجبال عبر إعطائها مسميات عبرية وتوراتية. وجاء في التقرير: “إن المشروع التهويدي متكامل ويستخدم الآثار بأشكال مختلفة تتناقض مع أهداف هذا العلم، وتتحول الآثار عبره إلى أداة سيطرة وطرد للسكان، كما تستخدم في تقديم رواية تاريخية شاملة لتاريخ القدس، تهمش التواريخ كلها وتبرز تاريخا واحدا، ليس فقط بهدف خلق مشروعية للاحتلال والضم، بل أيضا لاستخدام القدس في بلورة هوية إسرائيلية”. وقد لخص التقرير أهداف الحفريات بـ 1) خلق قدس متخيّلة برواية تاريخية متكاملة، تهمّش التاريخ العربي. 2) إحكام السيطرة على البلدة القديمة ومحيطها، وربطها بالقدس الغربية بحيث تصبح امتدادا عضويا لها. 3) تعزيز الاستيطان وتشبيكه داخل البلدة القديمة وخارجها. 4) إحكام السيطرة على المسجد الأقصى المبارك.

قرارات اليونسكو المتكررة جميعا تطالب بوقف هذه الإجراءات والتنقيبات لأنها مخالفة لأحكام اتفاقية حماية التراث المادي للعام 1972 والاتفاقيات الأخرى. والصراع على هوية القدس هو أساس استراتيجية “التهويد” في العقلية الصهيونية، التي تسعى إلى حسم ذلك الصراع بين “قدس” عربية إسلامية من جهة، و”أورشليم” عبرية يهودية مزعومة من جهة أخرى. وعندهم، لا ضير من خلق مدينة يهودية مقدسة مزعومة موازية للبلدة القديمة بمقدساتها ومشتركة معها في المركز ذاته أو القلب من تلك المقدسات ألا وهو المسجد الأقصى المبارك. ورغم استمرار التجاهل العربي والاسلامي والدولي للقضية الفلسطينية الذي ازداد مع انشغالات ما اصطلح على تسميته “الربيع العربي”، فإن الصورة الجميلة للطابع العربي لزهرة المدائن والنسيج العمراني الإسلامي ما زالا ماثلين للعيان لم يتغيرا، وما زال الوجه العربي والإسلامي للمدينة – حتى الآن – مسيطراً، رغم جميع الممارسات التعسفية الإسرائيلية في القدس، ورغم المصادرات للعقارات الإسلامية، ورغم طرد السكان ومنعهم من إنشاء أية أبنية جديدة. ولكن إلى متى الصمت والتقاعس يا عرب ويا مسلمون؟!!!