حبل المشنقة إذ يشتد حول رقبة القدس

تشكل مدينة القدس اليوم رمزية الصراع الديني والحضاري العربي الاسلامي ضد إسرائيل، وهي التي باتت أكثر “ابتعادا” عن محيطها الفلسطيني بسبب إجراءات الحصار والعزل والإغلاق المفروضة على المدينة وبالذات بعد بناء جدار الفصل العنصري في محيطها، ذلك الجدار الذي صادر الأراضي وحول المدينة إلى “غيتو” كبير تحيطه المستعمرات/ “المستوطنات” من الجهات الأربع. ولا يمكن فصل النشاط الاستعماري/ “الاستيطاني” عن جدار الفصل في شقه المتعلق بالقدس الشرقية وهو الهادف إلى إلحاق المزيد من السيطرة على “زهرة المدائن” وتشجيع “المستوطنين” على السكن في المستعمرات ضمن منطقة القدس الكبرى.

في التقرير العلمي والمهم الذي أعدته دائرة المفاوضات بمنظمة التحرير الفلسطينية، جرى رصد السياسات الاسرائيلية الأحادية في القدس الشرقية المحتلة، وتم تحديد الدعم المطلوب لمواجهة سياسة التهجير للإنسان والمؤسسات من “زهرة المدائن”. كما تطرق التقرير إلى عنوان بارز هو الإغلاق العسكري المفروض على القدس الشرقية المحتلة وبناء جدار الفصل العنصري حولها، حيث أكد أن “سياسة الإغلاق التي تفرضها إسرائيل على القدس الشرقية حالت دون وصول ثلاثة ملايين فلسطيني مسيحي ومسلم إلى كنائسهم ومساجدهم الواقعة في المدينة، فضلا عن عزل حوالي سبعين ألف مقدسي عن مدينتهم باعتبار أن المناطق السكنية التي يقيمون فيها باتت تقع خارج جدار الفصل”!!

إن “الجدار” في القدس تتويج لسياسة عنصرية تتعرض لها المدينة منذ 1967، هدفها تهويد وطمس المعالم الإسلامية والمسيحية على حد سواء للقضاء على الوجود العربي. فعلى الأرض، وبعيدا عن نضالات أهل القدس المستمرة الرافضة لكل سياسات التهويد والاقصاء، اكتمل عزل القدس عن محيطها الفلسطيني، وأحدق الخطر بالوجود العربي في المدينة المقدسة. فالاحتلال، عبر إجراءاته وممارساته التي يفرضها كأمرٍ واقع على الأرض، يكاد يقتل إمكانية أن تكون مدينة القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، مثلما بات مصير آلاف العائلات المقدسية التي عزلها الجدار في مهب الريح.

ليس التهجير القسري بظاهرة جديدة على الشعب الفلسطيني، فعمليات التهجير التعسفي ما زالت تحتل مساحة متزايدة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ويلعب “الجدار” دورا في تغيير التركيبة السكانية الديموغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي هذا يقول أستاذ القانون الدولي أمين عام الهيئة الإسلامية/ المسيحية لنصرة القدس والمقدسات (حنا عيسى): “عملية الاستيلاء والمصادرة المبرمجة التي تنفذها إسرائيل بأراضي القدس تهدف إلى عزلها عن محيطها العربي وعن ترابطها الجغرافي مع الضفة الغربية المحتلة تمهيداً لضمها بالكامل”، مضيفا “الملفت للنظر حالياً بأن مستقبل القدس القديمة أصبح تقريبا نسخة طبق الأصل عما جرى في مدينتي يافا وعكا الفلسطينيتين حين تم طرد أكبر عدد من الفلسطينيين بقوة السلاح قسرا لتتحول هذه المدن إلى مستوطنات ومدن سكنها اليهود كأغلبية ساحقة”. وأوضح: “ما قامت به إسرائيل سنة 1980 كقوة عسكرية بإعلان ضم القدس إلى كيانها السياسي رسمياً هدفت من ورائه تقليص الوجود الفلسطيني داخل حدود ما يسمى بلدية الاحتلال الجديدة ومنع أي حكومة إسرائيلية من التوصل لأي اتفاق يمس السيادة الإسرائيلية على القدس”.

على صعيد مكمل، صادقت إسرائيل على مخططات ترمي إلى ربط المستعمرات/ “المستوطنات” المقامة خارج حدود ما يسمى “بلدية القدس” بالأحياء “الاستيطانية” داخل حدود المدينة لتكون ضمن الجسم الجغرافي للقدس، إضافة إلى ربط هذا الحزام “الاستيطاني” اليهودي بالعمق اليهودي في القدس الغربية من خلال شبكة طرق وأنفاق، وصولا للتواصل الجغرافي المباشر مع إسرائيل. وجدار الفصل الخاص بالقدس يحاول ضم مجموعة من “المستوطنات” مع أكبر عدد من المستعمرين/ “المستوطنين” والتجمعات السكانية العربية الذي يحرص على أن تضم أقل عدد من الفلسطينيين. وعند إنجاز بناء ذلك الجدار، سيتم ضم نحو 12 “مستوطنة” في شرقي القدس عدد “مستوطنيها” 176 ألف “مستوطن” تعادل نسبتهم إلى مجموع “المستوطنين” نحو 44%، إلى جانب 27 “مستوطنة” أخرى في محيط القدس، وابتلاع الجدار أكثر من 90% من مساحة القدس الشرقية الموسعة بعد 1967 أي (70كم2) لتدمج في إسرائيل لاحقا. ويمر الجدار في أجزاء كثيرة منه قرب التجمعات الفلسطينية، ويحيط ببعض القرى والبلدات الفلسطينية من ثلاث جهات، ما يضع الفلسطينيين في معسكرات اعتقال. فبعد أن يسلخ أحياء عربية بكاملها عن المدينة المقدسة وأراضي الضفة وتقطيع أوصالها، فإنه يؤدي إلى عزل حوالي 225 ألف فلسطيني من سكان القدس الشرقية (داخل الحدود الإدارية لما يسمى بلدية القدس) عن الضفة. وهذه الإجراءات يتأذى منها كذلك عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في البلدات والقرى الواقعة في محيط المدينة، حيث يصل عدد القرى الفلسطينية المتضررة من جراء إقامة الجدار في شرقي القدس إلى 23 قرية وبلدية. كما يجب الاشارة إلى أن توغل الجدار مسافة تزيد عن الأربعة كيلو مترات شرقي ما يسمى “الخط الأخضر” أوقع قرابة (200) ألف فلسطيني داخل نطاق حدود بلدية القدس الإسرائيلية، فيما حرم أكثر من (200) ألف من سكان الضواحي من دخولها وحصرت أحياء بكاملها على جانبي الجدار لتشكل معازل منفصلة عن أي امتداد وتواصل فيما بينها.

منذ آب/ أغسطس 2003، طرح مشروع إنشاء مقطع لجدار الفصل العنصري خاصة بمدينة القدس والمناطق المحيطة بها يعرف باسم “غلاف/ حاضن القدس”، يتضمن إقامة أحزمة أمنية وسكانية لفصل شرقي القدس بشكل تام عن الضفة ليتسنى السيطرة على حركة الفلسطينيين من وإلى المدينة والتحكم في نموها بما يخدم مستقبل اليهود فيها، مع دفع السكان الفلسطينيين باتجاه الشرق. وهكذا، لم تعد اسطوانة الذريعة الأمنية الإسرائيلية المشروخة هي الوحيدة التي يتحدث عنها الاسرائيليون لإقامة الجدار بما يحقق إخراج آلاف المقدسيين خارجه، بل يتعلق الأمر بمعركة الوجود الديموغرافي في القدس. وبهذا، يكون الجدار تجسيدا حقيقيا لفكرة يهودية الدولة وعزل كل من هو غير يهودي خارج الحدود التي تريد رسمها. وإذ يشتد حبل المشنقة من حول رقبة القدس: ماذا أنتم فاعلون يا عرب، ويا مسلمون؟