إسرائيل: “نور” لليهود أم “ظلام” لهم وللعالم؟

رد الفعل الغاضب لدى عديد الإسرائيليين على التصرفات التمييزية ضد النساء التي يقوم بها يهود متشددون دينيا، يعكس قلقا متزايدا لديهم من تنامي النسبة العددية لهذه المجموعة المتطرفة، خاصة بعد الاشتباكات في بلدة (بيت شيمش) (يسكنها 80 الفا وغالبيتهم من المتشددين) بين اليهود المتدينين والسكان الاخرين، اثر حملة اطلقها المتدينون للفصل بين الرجال والنساء، لكن ندد بها العلمانيون الذين رفضوا الفصل بين الجنسين في الاماكن العامة وفي حافلات النقل العام، خاصة وأن حملة المتدينين في (بيت شيمش – قرب القدس) للفصل بين الجنسين تحولت الى اعتداءات جسدية ولفظية ضد النساء منها البصق على فتاة (8 أعوام) لانها لم تكن محتشمة اللباس. وفي هذا يقول (يوئيل ماركوس) في مقال نشرته “هآرتس” حديثا: “في عهود نضوجنا لم نفكر بانه مع الوقت سيقوم هنا (شعبان يهوديان) معادٍ الواحد منهما للاخر: أغلبية صهيونية في دولة علمانية مقابل أقلية أصولية عنيفة ومتوحشة. قلة تتطلع الى ان تفرض بالقوة معتقداتها على الكثرة، وكذلك قلة من هذه الاقلية تتطلع الى فرض (بلاد اسرائيل الكاملة) على الاغلبية، مهما كلف الامر. من كان يصدق بان رئيس مدرسة دينية معروف يعلن بان “من الافضل الوقوف امام النار على سماع صوت امرأة”؟ من كان يصدق بان يحاول احد ما الفصل بين الجنسين في الباصات العامة – النساء في الخلف، الرجال في الامام، مثلما في جنوب افريقيا ذات مرة؟”.

الغضب الذي أثارته حملة الفصل بين الجنسين يعكس قلق المجتمع الإسرائيلي من النمو السكاني المتنامي للمتدينين المتشددين الذين يعتمدون الى حد كبير على الدعم الحكومي. وبحسب التوقعات الديمغرافية، ستزداد نسبة (الحريديم) الذين يشكلون 10% من المجتمع الاسرائيلي اليوم لتصل الى 20% بعد 20 او 30 عاما. ويرى (مناحيم فريدمان) استاذ علم الاجتماع في جامعة “بار ايلان” انه “حتى لو ان التوتر بين طائفة الحريديم (ومعناها الحرفي: الذين يرتجفون أمام الله) وغيرهم من الاسرائيليين هو توتر كامن الا انه لا يمكننا ان ننكر انه وصل الى ذروة جديدة”. ويشرح (فريدمان): “يعتمد الحريديم على الدعم الحكومي للعيش، الامر الذي يثير غضب بقية الاسرائيليين الذين يعملون وينخرطون في الجيش ويدفعون الضرائب. ويتزايد قلق الاسرائيليين من نمو هذا الجزء الخامل من المجتمع الذي من الممكن ان يؤدي في النهاية الى الانهيار الاقتصادي لإسرائيل”. وكما هو معلوم، في القدس مثلا، يلتحق نصف الاطفال في المرحلة الابتدائية بمدارس يديرها الحريديم. ويعفى هؤلاء من الخدمة العسكرية ولا يشغل معظمهم اي وظيفة ولا يدفعون اي ضرائب. كما يتم الدفاع عن مصالحهم في الكنيست عن طريق أحزاب سياسية تملك تأثيرا أكبر من حجم نوابها (18 من أصل 120).

أما (ليلاخ سيغان) فيقول في مقال يحمل عنوانا ساخرا: “نحن طبيعيون وكل الاخرين لا”: “عندما يسمح الانسان لنفسه باجتياز القانون لانه يعتقد بان القواعد مخصصة للجميع باستثنائه، فانه يحدث سلسلة من الاعمال المضادة. عندها تبدأ رقصة الشياطين التي، اذا لم يتم ايقافها، من الصعب معرفة أين ستنتهي. عندما تجري هذه الرقصة بين متطرفين يقررون فجأة عن الجميع، فان التأثير يكون هداما على نحو خاص. عندما يؤمن كل واحد جدا بعدالة موقفه، يمكن الوصول الى اماكن غير سوية العقل. إذن في المرة التالية التي نعطي لانفسنا فيها الاذن للقيام بعمل متطرف، باسم الدولة أو باسم الانسانية فلعلنا نحاول التفكير قبل ذلك كيف كنا سنستقبل هذا اذا كان فعلنا قام به أحد آخر”. وبما يشبه الاكتئاب،  يقول (اوري مسغاف) في مقال حديث: “ما هو التفسير الاعمق، غير الوهن والضعف والغمز والاخلاق المزدوجة، لاندلاع تلك الموجة العكرة التي تهدد باغراق دولة اسرائيل في ظلام كبير؟ لماذا تندلع الان بالذات الى المقدمة مبادرات تشريع مكارثية، اعمال ارهاب يهودي واعتداءات الاكراه الاصولي الديني المتخلف والمجنون؟ الجواب يجب البحث عنه ليس في ما هو قائم، بل في ما ليس قائما، أي ليس في ما هو موضوع امام العين، بل ما هو مخفي عنها. لا تحت الفانوس، بل ما دحر الى ما وراء هوامش ظله. هكذا غاب عن حياتنا الاسم الصريح للسلام بحروفه الأربعة: الامل المطلق، ذاك الذي بدونه لا معنى للحياة في ظل تهديد أمني متواصل”.

الكتاب الإسرائيليون آنفو الذكر (وغيرهم) يتفقون، على أن سياسة حكومة اليمين المتطرف بقيادة (بنيامين نتنياهو) هي العامل الأول والأكبر في ترسيخ هذا الفكر الظلامي. بل إن (آري شبيط) كتب يقول أن “المصطلح الرئيسي في محيط رئيس الحكومة القريب هو القاعدة (الشعبية السياسية). ان هذا المصطلح السياسي الامريكي يتناول ذلك القطاع اليميني من السكان الذي رسّخ سلطة نتنياهو وضمن بقاءه. ان الاستراتيجية التي توجه نتنياهو في السنين الثلاث الأخيرة هي استراتيجية أساسية تريد عدم فقدان القاعدة. بألا يُفعل أي فعل يجعل قائد الليكود يفقد تأييد القوميين، أو المتدينين القوميين، أو الحريديين، وكل الذين أوصلوه الى ديوان رئيس الحكومة. ولم ينجح أي فشل سياسي وأي فشل اجتماعي وأي عاصفة عامة في ضعضعة الحكومة الصلبة التي يهيمن عليها اليمين العلماني، واليمين المتدين، واليمين الحريدي”.

في السنوات الأخيرة، خسرت إسرائيل كثيرا من الصورة المفبركة التي جلبت لها التعاطف الغربي العالمي الذي بات مستاءا بسبب مقارفاتها المتكررة. بل إن دوائر متزايدة في الغرب باتت تنظر إليها على أنها دولة غير عقلانية وهستيرية وتعاني جنون الارتياب. ولعله من الأمور المعبرة أن نختم بما قاله (روبين مرحاف) مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية سابقا حين أعلن: “حذار أن نعلل أنفسنا بالاوهام. علينا أن نعمل هنا، الان، لوضع سد في وجه هذه الظواهر واعادة اسرائيل الى المسار العقلاني السوي. اذا لم نفعل ذلك، فليس فقط لن نكون نورا للاغيار، بل سنكون ظلاما لليهود: دولة صغيرة ومنعزلة، مكروهة من نفسها، من (شعبها) ومن أسرة الشعوب التي أردنا (دوما) أن نكون جزءا منها”.