المياه الفلسطينية وسياسة “الفصل العنصري” الإسرائيلية
ضمن أحلام اليقظة التي راودت السلطة الوطنية الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو، خطط شاملة لتطوير وتنمية قطاع المياه في فلسطين. غير أن سياسات الاحتلال الإسرائيلي المضادة للتنمية الفلسطينية في الضفة والقطاع حالت دون تنفيذ جل مشاريع هذه الخطط، في حين تسببت المفاوضات العبثية بعدم تنفيذ المشاريع المتبقية، التي غالبا ما كانت تتأخر سنة وراء سنة، في ظل تزايد الطلب الفلسطيني على المياه بسبب زيادة السكان.
يتفق الخبراء بأن أبرز الأخطار التي تواجه قطاع المياه في الأراضي المحتلة تتمثل في تناقص المياه، وتلوّثها، إضافة إلى مخططات وإجراءات الاحتلال للسيطرة على المياه، فأولا: بالنسبة لتناقص المياه، يضخ الاحتلال كميات كبيرة من المياه من الخزان الجوفي الفلسطيني لاستغلالها في الأغراض الزراعية والصناعية والمنزلية الإسرائيلية، وأصبحت هذه الكميات تغطي نحو ربع احتياجات إسرائيل المائية على حساب المياه المتاحة للفلسطينيين في الضفة والقطاع، فضلا عن تزايد أعداد السكان ما ساهم في تناقص المياه وحصة الفرد منها. وثانيا، بالنسبة لتلوث المياه وارتفاع معدلاته، فإن أسبابه تتركز في الضخ الزائد للمياه الجوفية واستنزاف المياه السطحية إسرائيليا عبر المستعمرات/ “المستوطنات”. ومن أبرز مظاهر هذا التلوث تزايد نسبة الأملاح في المياه، وتزايد نسبة النيترات، وهذا التلوث يجعل المياه غير صالحة للاستهلاك في جميع الأغراض، إضافة إلى تسببها في الكثير من المشاكل الصحية والاقتصادية. أما السبب الثالث، وهو الأخطر، فيتجلى في المخططات الإسرائيلية لنهب المياه الفلسطينية في الضفة منذ 1967 حيث قامت بعديد الإجراءات مثل نسف وتدمير عديد الآبار والمضخات على طول الأغوار الغربية تحت دعاوى أمنية وعسكرية، والاستنزاف الكبير لمياه نهر الأردن، علما بأن إسرائيل هيمنت على نحو 85% من مياه الضفة بعد أن أصدرت مجموعة من القوانين والأوامر العسكرية التي عززت سيطرتها على الموارد المائية للضفة. وفي القطاع، أصدرت إسرائيل أوامر عسكرية للسيطرة على موارد المياه، وأقامت العديد من “المستوطنات” فوق مناطق الخزانات الجوفية العذبة منذ احتلال القطاع في 1967 وحتى الانسحاب في 2005. بل لقد كشفت دراسة فلسطينية حديثة، صادرة عن مركز التجمع للحق الفلسطيني، أن الاحتلال يستولي سنويا على أكثر من عشرة ملايين متر مكعب من أعذب مصادر المياه في غزة، عبر حفر مياه آبار الضخ مما يخفض من مستويات المياه الجوفية، وتحويل مسارها من داخل القطاع إلى إسرائيل.
معروف أن إسرائيل سعت منذ 1967 للسيطرة على مصادر المياه في الأراضي الفلسطينية، واتخذت إجراءات محددة لبسط سيطرتها على مصادر المياه. ولإضافة تفاصيل بارزة: قامت الدولة المحتلة بمصادرة الآبار الفلسطينية لصالح “المستوطنات”، وحددت مجرى نهر الأردن، وسحبت كميات كبيرة من المياه الفلسطينية من خلال حفر الآبار داخل “المستوطنات”، وحجزت مياه الأودية عن الوصول إلى الأراضي الفلسطينية، بل هي قامت ببناء مستعمرات فوق مصادر المياه الفلسطينية (70% من المستعمرات تم بناؤها على حوض الخزان الشرقي). وطبقا لتقديرات الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني، بلغ متوسط نصيب الفرد الفلسطيني نحو (100) لتر لكل فرد يوميا، لجميع الاستخدامات مقابل نحو (353) لترا للفرد في اسرائيل، ونحو (900) لترا “للمستوطن” في الضفة، على الرغم من ان الحد الادنى الذي توصي به “منظمة الصحة العالمية” لنصيب الفرد من المياه يبلغ (150) لترا يوميا. ويؤكد هذا الأمر وزير المياه رئيس سلطة المياه الفلسطينية (شداد العتيلي) فيقول: “الإسرائيليون يسيطرون على مخزون المياه عندنا وعلى حصتنا من مياه نهر الأردن والأحواض المائية في الضفة، أي ما يعادل 2300 مليون متر مكعب من المياه”.
لجنة الخارجية التابعة للبرلمان الفرنسي نشرت مؤخرا تقريراً غير مسبوق تضمن توجيه انتقادات لاذعة للسياسة الإسرائيلية في توزيع موارد المياه في الضفة ووصفها بالتفرقة العنصرية الجديدة، حيث قال: “إن إسرائيل تستخدم المياه كسلاح عنصري”، مشيرا إلى أن “450 ألف مستوطن في الضفة يستخدمون كمية مياه أكبر مما يستخدم مليونان وثلاثمائة ألف فلسطيني. وفي حالات شح المياه، تقوم إسرائيل بإعطاء الأولوية للمستوطنين للحصول عليها وهو ما يتعارض مع القانون الدولي”. وأضاف التقرير: “هناك نزاع على المياه بين إسرائيل والفلسطينيين والتوسيع الإقليمي لإسرائيل يبدو كاحتلال للمياه سواء كانت الأودية أو المياه الجوفية”، مشدداً على “أن المياه أصبحت سلاحا لخدمة التفرقة العنصرية الجديدة”. كما أوضح التقرير “أنه وعلى الرغم من امتناع العديد من استخدام هذا المصطلح بسبب الحساسية السياسية إلا أن السياسة الإسرائيلية في الضفة هي بمثابة تفرقة عنصرية جديدة، وأن حقيقة استخدام مصطلح الدولة اليهودية يشير إلى نوع معين من التفرقة العنصرية على أساس ديني”. غير أن أكثر ما يثير الاهتمام في التقرير أن كاتبه، عضو البرلمان الفرنسي (جين كالفاني) الذي ترأس وفدا لتقصي الحقائق في الضفة، خلص إلى أن “إسرائيل تستخدم سلاح المياه لتعزيز نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين كما فعلت جنوب إفريقيا، فهي تجبر الفلسطينيين على البحث عن مياه الينابيع غير الصحية وتستأثر بمخزون المياه الجوفية”. بل إنه ختم بقوله: “إسرائيل ترى أن مياه الضفة الغربية أشد خطرا عليها من صواريخ الكاتيوشا، وأن جدار الفصل العنصري أقامته إسرائيل لتعزيز الأبارتهايد المائي”.
لا تكمن فاشية إسرائيل فقط في القتل والتشريد بل في قتل الحياة. فالدولة الصهيونية تقوم بحملة منهجية مكثفة منذ أكثر من ستة أشهر في المنطقة “ج”، التي تشكل 60٪ من أراضي الضفة، وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية، كما يقول (العتيلي) “لتدمير الآبار المنزلية وبرك تجميع مياه الأمطار الجارية، والمعروفة منذ زمن الرومان، بهدف ترحيل هذه التجمعات عن أراضيهم”. ويتحدث المليونير (عاموس شوكن) مالك صحيفة هارتس في مقال عن حاضر إسرائيل ومستقبلها، فيقول: “الأبارتهايد كان يميز بين لونين (الأبيض والسود) في جنوب إفريقية، أما هنا في إسرائيل فهناك أبارتهايد بين (شعبين) الأول يملك كل الحقوق، أما الآخر فمحرومٌ منها، كما أن (الشعب) الأول يحكم الشعب الثاني”. ويتساءل: “ولكن إلى متى ستظل إسرائيل على هذا الشكل”؟.