“طاحونة” الاتحاد الاوروبي: لكن أين الطحين؟!

يقف “الاتحاد الأوروبي”، بشكل عام، موقفا مؤيدا وداعما للشعب الفلسطيني على المستويين السياسي والاقتصادي. ورغم كون هذا “الاتحاد” أكبر جهات الدعم المالي للفلسطينيين, ورغم بياناته ومواقفه الجيدة، سواء حول مدينة القدس المحتلة، أو المستعمرات/ “المستوطنات” بل والحصار على غزة، فإن هذه المواقف الجيدة في هذه البيانات الجيدة تبقى دون المطلوب منها الأمر الذي يجعل من دوره موقفا أقرب إلى العجز، وربما النفاق، منه إلى الرغبة في تجسيد/ فرض الحلول المتناغمة مع مواقفه. صحيح أن “الاتحاد” يتعامل مع الضفة الغربية والقدس والقطاع باعتبارها وحدة جغرافية وسياسية وسكانية واحدة، إلا أن الأصل هو في تحول الموقف الأوروبي إلى رافعة سياسية واقتصادية داعمة ومساندة للشعب الفلسطيني، طالما أن “الاتحاد” متمسك بمنظومة قيمه السياسية والقانونية الدولية وحقوق الإنسان. غير أن العلاقات الاقتصادية بين “الاتحاد” وكل من السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل لا تخرج عن الازدواجية التي تميّز السياسات الدولية تجاه القضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي يميز فيه “الاتحاد” علاقته مع إسرائيل لتعزيز اقتصادها بشتى الصيغ وأوجه التعاون السخية وغير المشروطة سياسيا، فهو يقصر تعامله مع الفلسطينيين على تقديم المساعدات التي أخفقت حتى اللحظة في بناء اقتصاد فلسطيني متماسك يمهّد لإقامة دولة “قابلة للحياة”، وهي مساعدات غالباً ما تكون مرتبطة بجملة من الاشتراطات السياسية. فقبل أيام، وقعت حكومة تسيير الأعمال الفلسطينية و”الاتحاد” اتفاقية تمويل بقيمة (11) مليون يورو لدعم القطاع الخاص وبناء المؤسسات المرتبطة بالاقتصاد، تهدف إلى تشجيع النمو الاقتصادي المستدام، وتوفير فرص عمل بقيادة القطاع الخاص في الضفة والقطاع، وبما يتماشى مع الخطة الوطنية الفلسطينية للتنمية للأعوام 2011-2013. وهذا أمر جيد. غير أنه سرعان ما تبين أن “الاتحاد” يطلب تخلي الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن  مطالباته، منذ العام 2010، بوقف البناء الاستعماري/ “الاستيطاني” في الضفة والقدس وتحديد مرجعية المفاوضات قبل استئناف المحادثات الكاملة!!!

ومع إبداء إسرائيل استعدادها اللفظي للمضي قدما في المحادثات، ورغم أن “اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الاوسط” قالت في أيلول/ سبتمبر الماضي أنها تريد – وفق شروط واضحة – استئناف المحادثات المباشرة بحلول 26 كانون الثاني/ يناير واكتمالها في عام، إلا أن إسرائيل قالت ان هذا التاريخ “ليس  موعدا مقدسا”، معبرة عن اعتقادها بأن “الرباعية” تشاركها الرأي بخصوص “محادثات عمان” التي يجب ان تستمر! ومع تشكيك بعض المحللين في مدى استعداد واشنطن لممارسة نفوذها خلال عام الانتخابات الرئاسية في ظل مسعى الجمهوريين لكسب أصوات الناخبين اليهود الذين تعرض ولاءهم التقليدي للحزب الديمقراطي لاختبار بسبب شكوكهم الخاصة بسياسات الرئيس (باراك اوباما) تجاه اسرائيل، جاء الموقف العجيب “للاتحاد” على لسان مسؤولة السياسة الخارجية (كاترين اشتون) الداعي إلى دفع المحادثات الاستكشافية الى ما بعد موعد 26/1 مما  يعني ان الضغط سيكون على الفلسطينيين.

لقد كشف تقرير أوروبي تنامي دور “الاتحاد” وبالذات مع دخول الادارة الأمريكية في حالة “البطة العرجاء” في عام الانتخابات. وقد قرر تقرير داخلي لرؤساء الممثليات الأوروبية في القدس ورام الله بشأن القدس المحتلة، اعتدنا عليه مع نهاية كل عام، إنه “بدون القدس كعاصمة مستقبلية للدولتين فلن يكون بالإمكان التوصل إلى سلام دائم بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإن سياسة إسرائيل في القدس المحتلة تقوض إمكانية حل الدولتين، وتعمل على ضم القدس الشرقية إليها”. وأشار التقرير إلى أنه “منذ العام 2001 فإن السياسة الإسرائيلية تعمل على تشجيع هجرة المقدسيين المسيحيين إلى خارج البلاد، وأن ما تقوم به في القدس في السنوات الأخيرة يتناقض مع التزاماتها المعلنة بالسلام الدائم مع الفلسطينيين عن طريق حل الدولتين. (كما أن) محاولات التأكيد على الهوية اليهودية للمدينة على حساب المقدسيين المسلمين والمسيحيين يهدد تنوعها الديني، ويشجع التطرف بأبعاده الإقليمية المحلية والعالمية”. وتضمن التقرير، توصيات باتخاذ سلسلة إجراءات للدفع بسياسة “الاتحاد” في المدينة، وبضمنها تعزيز حضور منظمة التحرير الفلسطينية في القدس، والحصول على معلومات بشأن “المستوطنين” المتطرفين في المدينة المقدسة لدراسة إمكانية منع دخولهم إلى دول “الاتحاد”. كما تضمن التقرير توصيات في المجال الدبلوماسي: داعيا إلى منع إجراء لقاءات مع ممثلين إسرائيليين في القدس المحتلة، ناصحا بتجنب المرافقة الأمنية أو الرسمية الإسرائيلية لدى قيام كبار المسؤولين في دول “الاتحاد” بزيارات إلى “القدس الشرقية” والبلدة العتيقة، ومطالبا بتجنب الصفقات التجارية التي تشجع الاستعمار/ “الاستيطان” في المدينة مقرونا باقتراحات سن قوانين أوروبية تمنع عقد صفقات تجارية تدعم “الاستيطان”.

يتطلب النظر في مواقف الاتحاد الأوروبي وتطورها وتقلباتها الرجوع إلى عوامل أساسية تلعب دورا حاسما في صناعة القرار السياسي الأوروبي، فرادى وجماعات، على رأسها التمييز بين سياسة أوروبية مشتركة وسياسات متعددة لدوله الأعضاء، وثوابت السياسة (السياسات) الأوروبية تجاه المنطقة العربية والإسلامية بالمجمل وموضع قضية فلسطين المركزية في إطارها. فرغم مضي 65 عاما على المسيرة الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا يزال “الاتحاد” في طور التكوين سياسيا وأمنيا، رغم كونه قد قطع شوطا كبيرا على الصعيدين الاقتصادي والمالي وما تطلبه ذلك من توحيد كثير من تشريعاته القانونية، لكنها في المجمل تضمن – كما تضمن الولايات المتحدة الأمريكية – أمن إسرائيل وضمان تفوقها عسكريا واقتصاديا. وعليه، فإن “الاتحاد”، كما يرى عديد المحللين، يتحرك تجاه القضية الفلسطينية سياسيا عندما يغيب الدور الأمريكي، سواء بسبب إهمال القضية لفترة من الزمن في تحديد أولويات السياسة الخارجية لواشنطن كما في عهد الرئيس جورج بوش الابن، أو بسبب الانتخابات الرئاسية كما هو الحال الآن.

لقد تعودنا على الرسائل المخدرة من الاتحاد الاوروبي إلى الشعب الفلسطيني التي تنتقد إسرائيل في المجمل، والتي يترتب عليها الكثير من “اللت والعجن” في إسرائيل ذاتها، لكننا نتساءل إلى متى يستمر هذا الطحن دون نتيجة؟! ألم يحن الوقت بعد لنرى طحينا؟! وكأني بإسرائيل تدرك بأنها آمنة تماما وانه لا “اللجنة الرباعية” ولا أي طرف من أطرافها، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي، ناهيكم عن جامعة الدول العربية، بمقدوره ممارسة ضغوط عليها.