“ثقافة التبرع” ودعم القضايا العامة

“ثقافة التبرع” دليل على نضج المجتمع المدني الذي هو المسؤول الأول (بعد الأديان والتعليم) عن ترسيخ الوعي للمساعدة والتبرع للمحتاج ومن ثم المساهمة في بناء وطن متكافل ينعم بعدالة اجتماعية مشتركة. ومع أن التاريخ العربي يشهد على مجلدات زاخرة وحافلة بالتبرع والعطاء، إلا أن واقعنا الحالي يفتقد لهما على عكس ثقافة مغايرة باتت مترسخة لدى الغرب. فنحن نسمع، بين الحين والآخر، عن غربي قدم بلايينه أو ملايينه لبلده. فهذا (بيل جيتس) أعظم رجل أعمال في مجال الكمبيوتر يدعو – مع متمولين آخرين – أثرياء الولايات المتحدة الاستجابة لدعوته بالتبرع بنصف ثرواتهم. طبعا، هناك من يرى أننا، نحن معشر العرب والمسلمين، نتبرع أكثر من الغربيين لكننا نؤثر إخفاء ما نقدمه على قاعدة “متبرع كريم”!

مقدمة ترسيخ “ثقافة التبرع” تبدأ من رشدنة المصاريف الاستهلاكية. فمتطلبات الحياة الاستهلاكية المعاصرة وإغراءاتها اللامحدودة، وحدود الإمكانات المادية، توقعان المرء بين نارين، خاصة مع نجاح وسائل الإعلام في اللعب على وتر رغبات الإنسان وتطلعاته نحو الرفاهية لتجعله مستهلكاً من الطراز الرفيع.‏ غير أن الحل ممكن – أساسا – باتباع سلوكيات رشيدة وواقعية تتناسب وطبيعة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وتنمية الوعي، وعدم الانجراف وراء الأنماط الاستهلاكية. في السياق، يرى المتابعون لمثل هذه الشؤون أنه ينبغي التخلص من القيم السيئة لهذه الأخيرة، والابتعاد عن عادات البذخ والتباهي والتفاخر في المناسبات الاجتماعية، دون نسيان دور وسائل الإعلام في مجال تنمية الوعي الاقتصادي والاجتماعي لدى أفراد المجتمع.

وفي عالمنا العربي/ المسلم يبدو إن ضعف روح المبادرة “التبرعاتية” لدينا أدى إلى قلة أعداد وتنوع المؤسسات الخيرية وضعف فعالياتها. فالتبرعات ما زالت موسمية ترتبط بالمبادرات الوطنية أو الدولية والأيام العالمية المخصصة لبعض الحاجات الاجتماعية الملحة. لذا، من المهم تحول هذه المبادرات إلى سياسة وبرامج مستمرة من أجل ضمان تطوير الوعي والوصول إلى الهدف المنشود من التبرع في سياق ثقافة تنموية. طبعا، من أجل تحقيق هذا الهدف، لابد من إشراك الحكومات وإقناعها بتبني هذا النوع من النشاطات المدنية كجزء من السياسة العامة.

إن في التبرع ميزة تؤسس لزيادة شعور الإنسان بالمسؤولية تجاه الآخرين. والحل الجذري لزيادة عدد المتبرعين، وشحذ “ثقافة التبرع” لدى المجتمع، يكمن في حفز من لديه فائض كبير للاقتداء بعمل المؤسسات الخيرية التي تخدم الفقراء والمحتاجين في سائر المناطق، مع تذكر الجهود التي يبذلها مشاهير العالم في تخصيص جزء من أموالهم لجهة تتبنى خطط التبرع للمحتاجين أينما كانوا، على أساس تكريس مفهوم “ثقافة التبرع” في المدارس والأسر والجامعات، الأمر الذي يخفف من وطأة المشاكل الاجتماعية ويعود بفائدة خالصة وفاعلة على المجتمع وازدهاره.

وإن كان القرآن الكريم يطالبنا بأن لا نخفي نعمة الله “وأما بنعمة ربك فحدث”، وإن كان، مع ذلك، كل منا يرغب بالفرح والاحتفال، وهما “حق مشروع” حتى في ظل وضع فلسطيني مأساوي يتلاعب به الجميع، فإن أي احتفال لا يجب أن يفضي إلى نوع من التبذير العبثي المطلق أو النسبي!! وحتى لو اختار غيرنا التبذير، ليس جائزا لنا – نحن معشر الفلسطينيين أو عموم العرب أو المسلمين – أن نكون مسرفين، بل علينا تكريس التواضع في مثل هذه “المصاريف الاستهلاكية”. لذا، ما المانع مثلا في اختصار مصاريف احتفالات الزواج لصالح التمكين من التبرع –ولو بقدر متواضع- للشأن العام. وطبعا، هذا الاقتراح خاص بالطبقات المقتدرة وبالطبقة الوسطى دون أن يستهدف – بالضرورة – من ينتمي إلى درجة ادنى على سلم الهرم الاقتصادي.

في مقال سابق كتبت – تقريبا حرفيا –  أن ثمة فارقا، فارق كبير حقا، بين أن نعيش حياة كريمة، وأن نصرف بانسلاخ كامل عن القضية الوطنية والقومية. فلطالما كان هناك فارق ما بين الكرم.. و”البهورة”!!! وفي النطاق ذاته، ثمة فارق، فارق كبير فعلا، بين من يمارس “الكرم على الذات”.. وبين من يمارس كرما غير منقطع في مسيرة العطاء العام!!! و”طوبى” للكريم، شامل الكرم، الذي لا ينسى العائلة والبلاد والعباد.. و”طوبة” تنزل على رأس “الكريم لمرة واحدة” (المتكارم فقط على نفسه وأهله)!! وبعبارات مكملة: ثمة فارق، فارق كبير أيضا، بين محبة أن يرى الله نعمته على عبده، وبين أن يرى عبده وقد أصبح عبدا (او عابدا) للمال، يصرفه (ولربما لا يصرفه) على نفسه أو عياله. ودوما، لم لا يكون للوطن نصيب من المال، والوطن هنا ليس فلسطين فقط، ولها أولوية نظرا لمحنتها، بل أيضا هو كل بلد محتاج في عالمنا العربي، بل كل قطر فقير في العالم الثالثي (المسلم وغير المسلم). أوليس لفلسطين مثلا حق في أن تفرح بتعزيز صمودها بقوة عطاء أبنائها فلسطينيين كانوا، ام عربا آخرين، ام مسلمين، أم غيرهم من شعوب الأرض؟!

إن “استجلاب” التبرعات أضحت مهارة تحتاج إلى تعلم وفن، ربما على رأسها اختيار المشروع، ومن ثم البدء في الاتصالات الشخصية المباشرة، وهي الأكثر فعالية، حيث إن هناك العديد من الأسئلة التي قد يطرحها المانح، والتي تجد لها إجابة في اللقاء مع المستفيد، بالإضافة إلى التخاطبات المباشرة التي تأخذ الصفة الشخصية البحتة التي يجب إعدادها بدقة متناهية، وتجيب عن جميع الأسئلة التي يمكن أن يطرحها المانح. ولمن كان له، مثلي، الخبرة الطويلة، المجبولة بالمعاناة، في “استجلاب” التبرعات للقضايا الوطنية، نجده يحزن عندما يرى الكثيرين يكنزون المال كنزا ويتصرفون وكأنهم يعيشون أبدا، فيما ترى أن من يملك أقل منهم كثيرا يشرح فؤادك وهو يغدق بكرمه. ومن هؤلاء، كما أوضحت في مقالي الآنف الذكر: “المسلم المؤمن الذي يتبرع (لصالح الوطن وعباد الله) بأكثر من نصف دخله، والمسيحي المؤمن الذي لا يعرف لفظة “لا” في تبرعه، والعلماني –ولربما الملحد- الذي وجدته عميق الإيمان بقيم حميدة وعلى رأسها الكرم! ولهؤلاء جميعا مني، أم أقول منا جميعا، كل الاحترام والتقدير.