دولة (194)..و.. عودة (194)

في 14 تموز/ يوليو 2011، خرج السودانيون الجنوبيون إلى الشوارع يغنون ويرقصون، وشهدت عاصمتهم (جوبا) مهرجانا للفرح بعد الخلاص من “سيطرة دولة الشمال السوداني”. وهكذا، بعد أن كان السودان دولة واحدة تحول رسميا إلى دولتين، فبادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مباركة هذا الاستقلال، واعترفت الأمم المتحدة على الفور بالدولة (193) في الأمم المتحدة: دولة جنوب السودان. كما سارع العالم إلى تقديم تهانيه للدولة الجديدة مع تمنياته لها بالرخاء والازدهار. وفي الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر الجاري، تذهب السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة ساعية لنيل الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة كاملة العضوية ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967، وهو ما يفترض حكماً المرور بمجلس الأمن حيث الفيتو المنتظر، أو الاعتراف بفلسطين “دولة غير عضو” على غرار الفاتيكان وهو الأمر الذي يمكن الحصول عليه عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.

من المفارقات، إسراع الحكومة الإسرائيلية الاعتراف باستقلال جنوب السودان والإعلان عن نيتها إقامة سفارة إسرائيلية وعلاقات دبلوماسية بين الدولتين، مقابل جهود تبذلها لإجهاض مشروع السلطة الفلسطينية!! إن المطالبة بتحقيق إقامة الدولة الفلسطينية، أو ما يمكن تسميته “استحقاق ايلول.. فلسطين الدولة: 194″، حدث سياسي هام في تاريخ الشعب الفلسطيني، يحتاج إلى معارك سياسية طويلة وجهود دبلوماسية لتطبيقه، خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة رسميا (لكن اضطراريا – فيما يرى البعض بقوة اللوبي الصهيوني الإسرائيلي)، من أنها ستوقف كل أنواع المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية إذا واصلت الأخيرة خططا لتقديم طلب للأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة في أيلول. لذا، فإن المسعى الفلسطيني على عكس ما يتصور كثيرون، ليس جزءا من حل بقدر ما هو تعبير عن أزمة رسختها سياسة اليمين المتطرف الإسرائيلي وإطلاقها رصاصة الرحمة على المفاوضات عبر تكثيفها لحركة الاستعمار/ “الاستيطان”، رغم الانحياز التام من قبل السلطة الفلسطينية إلى (خيار التفاوض) باعتباره الخيار الأمثل لاسترجاع الحقوق الفلسطينية ولو بحدّها الأدنى.

ورغم أن الذهاب للأمم المتحدة على قاعدة الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني أضعف كثيرا المساعي الفلسطينية وجعلها عرضة للابتزاز السياسي، بدلا من أن يقويها عبر بناء أوسع توافق سياسي فلسطيني ممكن، إلا أن هناك “صدفة سعيدة!!!” (وطبعا متناقضة) بين الدولة (194) المأمولة وبين القرار (194)، الذي تنص الفقرة الهامة منه (رقم 11) على: “تقرر وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة”. إن قرار (194) يدعو إلى تطبيق “حق العودة” كجزء أساسي وأصيل من القانون الدولي، ويؤكد على وجوب السماح للراغبين من اللاجئين في العودة إلى ديارهم الأصلية، والخيار هنا يعود إلى صاحب الحق في أن يعود وليس لغيره أن يقرر نيابة عنه أو يمنعه، وإذا منع من العودة بالقوة، فهذا يعتبر عملاً عدوانياً. كذلك يدعو القرار إلى عودة اللاجئين في أول فرصة ممكنة، والمقصود بهذا: عند توقف القتال عام 1948 – لحظة صدور القرار أي عند توقيع اتفاقيات الهدنة – ومنع إسرائيل عودة اللاجئين من ذاك التاريخ إلى يومنا هذا خرق مستمر للقانون الدولي يترتب عليه تعويض اللاجئين عن معاناتهم النفسية وخسائرهم المادية، وعن حقهم في دخل ممتلكاتهم طوال الفترة السابقة.

حق العودة مقدس، لأنه حق تاريخي ناتج عن وجود اللاجئين في فلسطين منذ الأزل وارتباطهم بالوطن، ولأنه حق شرعي لهم في أرضهم، ولأنه حق قانوني ثابت. ورغم أكثر من 63 عاما من الشتات، تمسك الفلسطينيون بحقهم في العودة إلى الوطن، لأن كيان الإنسان وهويته مرتبطان بوطنه، مسقط رأسه ومدفن أجداده ومستودع تاريخه ومنبع كرامته، ولذلك فإن حق العودة مقدس لكل فلسطيني، حتى الطفل المولود في المنفى. لذا، حق العودة حق مطلق لا يسقط بالتقادم، وليس منحة أو امتيازا تنتهي صلاحيته، ولا يكون جزءاً قابلاً للتفاوض عليه فى أي معاهدة سلام، وتجوز ممارسته في أي وقت، ولا تجوز فيه النيابة أو التمثيل لاسقاطه. وهو حق شخصي لكنه يكون جماعياً تحت مبدأ تقرير المصير. وحق العودة ايضا مرتبط بحق الانتفاع بالملكية التى لا تسقط بالاحتلال أو بالسيادة على منطقة. والتعويض ليس بديلاً عن العودة، فكلاهما حقان قابلان للتطبيق. ومبدأ التعويض هو “إرجاع الشيء إلى أصله”، أي أن ما يجب التركيز عليه، أن تقرير المصير لا يكتمل بإقامة الدولة، بل بحق العودة الذي لا ينتقص أو يتأثر بإقامة دولة فلسطينية بأي شكل، أي أن كل ما يتمخض عن أي مفاوضات يؤدي إلى أي تنازل عن أي جزء من حق اللاجئين والمهجّرين والنازحين بالعودة إلى أراضيهم وأملاكهم التي طردوا منها منذ عام 1948 هو باطل قانوناً وساقط أخلاقياً وخطير سياسيا.

وحتى لو سرح بنا الخيال وأعلنت الدولة (194) دون الرضوخ للضغوط الخارجية ومبادلتها بالقرار رقم (194) فسيبقى الوضع على الأرض دون تغيير. ويبقى القرار مجرد وثيقة تضاف إلى مئات بل آلاف الوثائق الخاصة بقضية الشرق الأوسط في أدراج منظمة الأمم المتحدة: فلن يخرج أي جندي إسرائيلي من الضفة الغربية المحتلة، ولن يغادر أي مستوطن الأرض الفلسطينية التي وهبت له، ولن يختفي جدار الفصل العنصري، ولن يوقف تهويد المكان والزمان والأسماء. ومن هنا، الصراع مستمر حتى ترضخ “إسرائيل” للإرادة الدولية، وقبلها الإرادة الحقوقية والقانونية وشرعة حقوق الانسان المقرة من العالم المتحضر حقا.