في ذكرى رحيل حيدر عبد الشافي: يا ليتنا استمعنا له

في ذكرى رحيله الخامس، التي تصادف الخامس والعشرين من الشهر الجاري، يهمن الراحل الدكتور حيدر عبد الشافي (أبا خالد) على عقولنا بشفافيته التي انعكست على مواقفه السياسية خاصة بما يتعلق بالاستعمار/ “الاستيطان” الصهيوني. فقد قاد عبد الشافي الوفد المفاوض في “محادثات مدريد” على أساس خطة تفاوضية (بالاتفاق مع القيادة الفلسطينية في حينه) تركز على موضوعي القدس و”الاستيطان” باعتبارهما المدخل الأساسي في اطار البحث عن انهاء الاحتلال واقامة الدولة المستقلة. فالوفد، بقيادته، أدرك انه بدون وقف “الاستيطان” ووقف تهويد القدس فإن المفاوضات تصبح أداة لفرض الوقائع الإسرائيلية على الأرض بما ينسف جوهر التفاوض والحل النهائي. وبعد أن عطلت اسرائيل المفاوضات، وذهبت القيادة الفلسطينية إلى مسار أوسلو، لم يجد الراحل طريقا سوى الاستقالة معلنا أن هذه التغيرات تحمل معها مخاطر كبرى على القضية.

إن ذكرى الراحل الخامسة مناسبة لاستحضار إرث عبد الشافي الذي استوعب، أكثر وأبكر من غيره، “مصيدة أوسلو” وما ستؤول إليه معاناة وعذابات الضفة الغربية بما فيها القدس، وأن “المصيدة” هي مجرد عملية إجهاض للمسيرة السلمية والتفاوضية، وهو ما أثبتته السنون اللاحقة التي أفرزت حالة مأساوية فلسطينية مقرونة بسياسات إسرائيلية تديم الاحتلال، وتتوسع في بناء المستعمرات، وغير ذلك من مقارفات أوضح من أن تذكر. لقد اعتمد موقف الراحل على إدراكه التام لمفهوم “الحركة الاستيطانية” المعادية جوهرا للسلام وغير الجديرة بالثقة. حينها، خالفه متنفذون ممن “أحسنوا الظن” بإسرائيل واعتقدوا أن الحل قادم بسرعة في حدود خمس سنوات لا أكثر، الأمر الذي لم يدفعهم، في حينه، للتركيز على شأن “تفصيلي” مثل “الاستيطان”! لكن الواقع البائس، اليوم، يوضح صحة وجهة نظر عبد الشافي، الأمر الذي أدركه – ولو متأخرا – قادة “المنظمة” وغيرهم (“وأن تدرك متأخرا خير من أن لا تدرك أبدا”). فالبناء الاستعماري/ “الاستيطاني” يتصاعد في ظل وجود حكومة اليمين المتطرف برئاسة (بنيامين نتنياهو) التي تزايدت مصادقاتها على توسيع البؤر “الاستيطانية” بالضفة، إضافة لمصادقاتها على تغيير مسار جدار الفصل العنصري لضم الكتل “الاستيطانية” وتحديدا بمنطقة القدس “الموسعة”، علما بأن وتيرة بناء المستعمرات/ “المستوطنات” الصهيونية في الضفة وصلت إلى ضعف مثيلتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1948، وهو ما أكده مؤخرا تقرير لحركة “السلام الآن” استند إلى صور جوية وجولات ميدانية.

يقوم الوعي المبكر عند الراحل الكبير على خلاصة جوهرها بأن “الاستيطان”، بعد الاحتلال، هو الحلقة الأصعب التي ينبغي كسرها حتى تصل المفاوضات إلى الهدف الذي يلبي – بالحد الأدنى – مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني وأهداف نضاله الوطنية. الآن، أدرك معشر المعتدلين، بل أكثرهم توغلا في الاعتدال، أن حكومات إسرائيل لا تريد سلاما، وأن “الاستيطان” هو القاتل الفعلي لأي عملية تسوية لأنه “يأكل” أرض فلسطين بنهم متزايد، وأن حركة “الاستيطان” باتت الذراع الضاربة لإسرائيل. بل إنني اليوم استخلص قائلا: بعد أن كان في الماضي هناك “جيش إسرائيلي له دولة”، أصبح الحال يؤكد وجود “كتلة استعمارية/ “استيطانية” سرطانية.. لها دولة.. وجيش”! فحقيقة أن هناك نصف مليون يهودي يقيمون في “مستوطنات” الضفة (بينهم 200 ألف يسكنون في المناطق التي عرفتها إسرائيل كجزء من “قدسها الموسعة” وضمتها إلى سيادتها) باتت معروفة. ورغم ذلك وكل ما يواكبه من حالة إحباط شديدة تسود أوساط الفلسطينيين، فإن على الجميع، بدءا من السلطة ومرورا بالفصائل وانتهاء بمؤسسات المجتمع المدني، المزيد من التحرك درءا لمخاطر “الاستيطان” الذي أدرك (أبا خالد) ببعد نظر مشهود له أن هدفه تعطيل قيام الدولة الفلسطينية وأن أي مفاوضات ستصل، لا محالة، إلى طريق مسدود يحقق هدف إسرائيل: دويلة فلسطينية خلف جدار الفصل العنصري، محشورة في معازل بلا موارد، محدودة الحركة، فاقدة للسيادة، وبالذات بعد ضم “التكتلات الاستيطانية لدولة إسرائيل”!!

لقد باتت منظمات “الاستيطان” الصهيونية (المدعومة علنا من الدولة والجيش الإسرائيليين) جيشا جديدا “يدافع” عن “شعب المستوطنين” داخل الكيان الصهيوني المصمم على بذل كل ما بوسعه لمنع قيام دولة فلسطينية ايا كان رد الامم المتحدة على طلب الفلسطينيين الاعتراف بدولتهم. بل إن ذلك “الشعب المستجد” بات يعتمد سياسة الرد الانتقامي (“دفع الثمن”) عبر مهاجمة اهداف فلسطينية في كل مرة تتخذ فيها السلطات الاسرائيلية اجراءات ضد “مستوطنة عشوائية”!! وقد كتبت صحيفة “هارتس” مؤخرا أن “الجيش الاسرائيلي بدأ يدرب المستعمرين في الضفة على مواجهة تظاهرات فلسطينية عنيفة محتملة”. وتضيف: “الرسالة المركزية من الجيش للمستوطنين هي أن الجيش الاسرائيلي جاهز جدا لكل سيناريو يتطور في المظاهرات. ولمزيد من الأمان، توجد نية مبدئية في الجيش لتزويد المسؤولين الامنيين في المستوطنات بوسائل لتفريق المظاهرات، كالغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت”. وفي هذا السياق، يرى (شاؤول غولدشتاين) رئيس مجلس غوش عتصيون الاقليمي، ان “الجيش هو المسؤول عن القضايا الامنية الا ان التزام اليقظة لمعرفة كيفية الدفاع عن انفسنا في حال لزم الامر علينا”. وفي منتدى عقد في الكنيست بمبادرة من النائب (مايكل بن اري) بعنوان “تحويل التهديد (الفلسطيني) الى فرصة لتغيير قوانين اللعبة”، قال (بن اري): “الوقت حان لنعلن اننا هنا والى الابد! علينا ان نخرج من بيوتنا، بنسائنا واطفالنا وشيوخنا للرد، على الارض، على المسيرات التي يريد العرب تنظيمها”. بل إن (يوناثان يوسف المتحدث باسم المستعمرين/ “المستوطنين” في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة) يتهكم معلنا: “نحن لسنا مسيحيين وسنرد الضربة بأخرى”!!

إن ما هو خطير وجديد في الأمر كون حركة “الاستيطان” تسعى لتحويل قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين إلى نوع من الحرب الأهلية بين “شعبين” يعيشان على أرض واحدة يملك كلاهما الحق في العيش عليها بسلام. ويا ليتنا استمعنا لحيدر عبد الشافي في حينه وعملنا في هدى رؤياه.. ومع ذلك، الوقت لم يفت بعد، وعودتنا عن الخطأ (بل الخطيئة) فضيلة.