حين يخرج “الهولوكوست” عن السياق!

منذ عدة سنوات، ورئاسة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تخوض سجالاً داخلياً مع إداراتها الفرعية في مناطق عملياتها الخمس: الضفة والقدس، قطاع غزة، الأردن، سوريا، ولبنان. وخارجياً، السجال جار مع الجهات الرسمية المعنية في تلك الدول، وكذلك مع ممثلي اللاجئين وهيئاتهم الشعبية وحتى مع جموع اللاجئين أنفسهم في هذه المناطق أيضاً. وقد تطوّر هذا السجال مؤخراً إلى أن بلغ مستوى الاحتدام. وأما السبب السطحي الظاهر فيكمن في محاولة فرض تدريس مادة تعليمية جديدة تحمل عنوان: حقوق الإنسان!!

إن الشعب الفلسطيني عموماً، ولاجئيه على وجه الخصوص، هم أدرى الناس بوعي حقوق الإنسان، شكلاً ومضموناً. فهم الأكثر تعرّضاً لانتهاكات حقوق الإنسان، والأطول لجوءاً في التاريخ الإنساني المعاصر وغير المعاصر، حيث يتعرضون لأبشع أساليب استلاب حقوق الإنسان منذ أكثر من مائة عام، وذلك على مرآى ومسمع العالم أجمع، وبدعم وتواطؤ دوله وحكوماته، وخصوصاً تلك الدول والحكومات التي تدّعي جهاراً نهاراً الدفاع عن مباديء حقوق الإنسان. بل إن بعض هذه الدول أعلنت عن احتكار سبق صياغتها لهذه المبادىء، في حين نصّبت بعض الدول الكبرى نفسها وصية على حقوق الإنسان، فباتت تصدر على الآخرين الأحكام، فتمنح هذا “صكوك الغفران”، وتفرض على ذاك قوانين “الحرمان”، وبطريقة انتقائية تشوبها معايير الإزدواجية والكيل بمكياليْن أو أكثر، وفق ما تقتضيه مصالحها الخاصة، لا وفق مبادىء وقواعد ومواثيق حقوق الإنسان ذاتها.

وسيراً على منطق: “إذا عُرف السبب بطل العجب”، فإن مكمن السجال المحتدم لا يدور حول تلك المادة التعليمية عن “حقوق الإنسان” التي تحاول رئاسة (الأونروا) فرضها بتوجيهات عليا من صُنّاع قرارات منظمة الأمم المتحدة التي انبثقت منها وتتبع لها. فتلك المادة التعليمية يقدرها الشعب الفلسطيني ولاجئوه منذ مباشرة “الوكالة” لعملها وفق التفويض الدولي الممنوح لها والذي يختصره اسمها. وإنما السجال يدور حول اقتصار نماذج انتهاكات حقوق الإنسان، على نموذج “الهولوكوست”، بكونه النموذج المتفرّد لتلك الانتهاكات. وهنا “مربط الفرس”!!

وكي لا تطالنا لعنة “معاداة السامية”، وما أسهلها، حيث لا تشفع لنا ساميّتنا مثلما لم تشفع للكثيرين حتى يهوديّتهم، نرى لزاماً التأكيد على أن: الشعب الفلسطيني، وبحكم تجاربه ومعاناته المريرة، هو من أكثر شعوب الأرض تلمساً لانتهاكات حقوق الإنسان، وإحساساً وتعاطفاً مع مّن تطاله تلك الانتهاكات من بقية شعوب الأرض قاطبة. وهو بالتالي يرفض جرائم “الهولوكوست” النازي التي طالت اليهود وغير اليهود على حدّ سواء، بغض النظر عن التشكيك في حجمها وأعداد ضحاياها وحتى حقيقة حصولها. غير أن هذا الشعب ـ وبالمقابل ـ يرفض استغلال هذه الجرائم لتسويغ وتشريع ما اقترف بحقه من جرائم ضد الإنسانية، والمجازر وعمليات الإبادة الجماعية، وسلب أراضيه وممتلكاته، وطرد حوالي ثلثيه من وطنهم، واغتصاب وتهويد هذا الوطن، على أيدي مستعمرين/ “مستوطنين” قدموا بقوة السلاح من شتى أصقاع المعمورة ليحلّوا محلّ المواطنين الفلسطينيين الأصيلين. وبعد أن كانت فلسطين، على امتداد قرون طويلة خلت، أرضاً للأمن والسلام، وتعايش الطوائف والأديان، بمَن فيهم معتنقي الديانة اليهودية رغم أقليتهم، “نجح” الغزاة الصهاينة في تحويلها إلى أرض يغيب عنها الأمن ويسود فيها العنف.

وبشيء من التوضيح، فإن “هولوكوست” مشتقة من الكلمة اليونانية “هولوكوستون”، وتعني “الحرق الكامل للقرابين المقدمة لخالق الكون”. وقد استعملت في القرن التاسع عشر، لوصف الكوارث الطبيعية أو المآسي العظيمة. وهناك أنواع أخرى من الهولوكوست، منها على سبيل المثال: “الهولوكوست الآسيوي” لوصف أوضاع جزر المحيط الهادي وأقصى شرق آسيا تحت احتلال الإمبراطورية اليابانية، و”الهولوكوست الأسود” لوصف موت أعداد كبيرة من الزنوج على السفن التي كانت تقلّهم إلى عبوديّتهم في الولايات المتحدة، و”الهولوكوست الصيني” لوصف أوضاع الصين تحت الاحتلال الياباني. وقد استعملت هذه الكلمة، أول مرة، لوصف طريقة معاملة الزعيم النازي الألماني لليهود عام 1942، لكنها لم تلقَ انتشاراً واسعاً، حيث كان حتى اليهود أنفسهم يستعملون كلمة “شواه” التوراتية بمعنى الكارثة بدلاً منها. ولم يتوسع استخدام كلمة “هولوكوست” سوى في عقد الخمسينيات. وفي السبعينيات، انحصر استخدامها لوصف ما يسمى بحملات الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود على يد النظام النازي الألماني!! هذا، مع العلم أن الوقائع التاريخية تشير بوضوح إلى أن النازية لم تستهدف اليهود فحسب، وإنما استهدفت كل من اعتبرتهم “دون البشر” من غير العرق الآري، وحتى من الشاذين جنسياً والمجرمين والمعاقين جسمياً أو عقلياً والشيوعيين والليبراليين وسواهم، بل وممن عارض النازية من الآريين الألمان أنفسهم!!!

إن التركيز على تدريس اللاجئين الفلسطينيين للهولوكوست الذي تحيط به الكثير من الشكوك والغموض، لهو أمر يثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب؟! فإذا كان الهدف زيادة وعي اللاجيء الفلسطيني بحقوق الإنسان حقاً وهو ما يقبله فعلاً منذ عشرات العقود، فإن من باب أولى أن يتم اختيار حالات من “الهولوكوست الفلسطيني” المتواصل أولاً (وما أكثر الأمثلة عليه: من دير ياسين، إلى كفر قاسم، ومخيم جنين، وصبرا وشاتيلا، والرصاص المصبوب على قطاع غزة، الخ). وهذه “تجارب” واقعية وثابتة ومُعاشة، وبالتالي أقرب إلى الفهم والاستيعاب، إن لم تكن محفورة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية وغير الفلسطينية أصلاً. كما أن عديد المجازر الإسرائيلية تجاه الشعب اللبناني، حقائق ثابتة، ناهيكم عن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق. وهناك أيضاً عشرات النماذج العالمية لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب وعمليات الإبادة الجماعية، سواءً في الماضي البعيد أو القريب، ومنها نماذج من الحرب العالمية الثانية نفسها. ولعل إلقاء القنابل الذرية الأمريكية على مدينتي “هيروشيما” و”ناجازاكي” نموذجان صارخان على ذلك، وغيرها الكثير الكثير من النماذج التي لا يرقى إليها الشك ولا يساورها الغموض من نوع “الهولوكوست” ما فتىء يتعرض له الشعب الفلسطيني. وهذه الجرائم، و”النكبات” من صنع البشر، وعموم “الهولوكوستات” التي أصابت شعوبا عديدة تحظى ـ عند أهلها وأصحابها ـ بالأولوية على “الهولوكوست اليهودي”، وفق منطق: أوْلى لك فأوْلى؟!