مع اقتراب “موسم التزويج”: ونحن نفرح بأبنائنا، أوليس من حق معلوم لفلسطين؟!!!

هي ليست مسألة شخصية حتى لو كان ظاهرها كذلك! وأدخل في الموضوع مباشرة كي ننتهي مما قد يبدو (أكرر: قد يبدو) شخصيا. ذلك أنني (والعقبى لكم ولأبنائكم) على وشك رؤية ابني الأكبر (باسل) يتزوج! وقد قرر أن يتولى، ماليا، ووحده، مسؤولية إقامة حفل زفاف (حضاري، ورشيد) يتناسب ووضعه كشاب في بداية حياته العملية. وطبعا، ما كان لمثل هذا القرار أن يكون لولا حماسة وتفهم عروسه وأهلها الكرام الذين هم أهل لذلك. ومن جهتي، قررت الترحيب بقراره، ليس ضنّا بالمال ولكن إعجابا بقراره العاقل والحكيم الذي جعلني أختار أن تكون هديتنا (زوجتي وأنا) هدية مالية (حرصنا، أصلا، على توفيرها، على درب تزويجه)!! وبدلا من “بعزقة” الهدية على مصاريف تتصل بإقامة حفل “كبير” و”فخيم”، قمنا بتوزيعها على حصتين: ثلثان لعروسه وله يفعلان بها ما يشاءان، وثلث يذهب لدعم صمود أهلنا في الوطن المحتل.

كفلسطيني وعربي، لطالما أبديت رأيي، شفاهة وكتابة، بأن الزواج “حق” لا بد منه! غير أن ما هو ليس حقا أن تكون احتفالات الزواج (رغم خصوصيتها) خارجة تماما عن السياق العام للوضع الفلسطيني أو العربي. وكي لا يساء الفهم، أسارع إلى القول: حتى في ظل مذبحة فلسطينية تجري هنا أو هناك، أو في ظل مجزرة عربية تقع هنا او هنالك، يحق للوالدين (سواء من جانب العريس أو العروس) ان يحتفلا بما هو جزء من “سنة الحياة” أي الزواج، علما بأن  لمثل هذا “الحدث” مواصفات ولا أقول شروطا! وفي سياق هذه المواصفات، تمنيت دوما أن لا يفكر الابن أو الحفيد بالزواج ما لم يكن قادرا عليه اجتماعيا (ولو بأضيق الحدود التي يتفهمها الشرع)! طبعا، إن احتاج الابن إلى مساعدة ودعم فليكن لكن دونما تجاوز مدمّر للإمكانات، ناهيك عن التجاوز للأخلاقيات المرعية بما يفضي إلى نوع من التبذير العبثي المطلق أو النسبي!! وحتى لو اختار غيرنا التبذير، ليس جائزا لنا –نحن معشر الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين- أن نكون مسرفين، بل علينا تكريس التواضع في مثل هذه “المصاريف الاستهلاكية” لصالح “تراكم رأسمالي” يساعد العروسين في بناء حياتهما على أساس متين، “راحمين” كليهما من أن يبدءا تلك الحياة بديون تثقل كاهلهما. فشتان ما بين “احتفالات” الزواج المنهكة، وما بين تعزيز تأسيس “البنى التحتية” لذلك الزواج! وهنا، لا بد من ضمان اختصار مصاريف احتفالات الزواج في هذا البند أو ذاك لصالح التمكين من التبرع –ولو بقدر متواضع- للشأن العام. وطبعا، هذا الاقتراح خاص بالطبقات المقتدرة وبالطبقة الوسطى دون أن يستهدف من ينتمي إلى درجة ادنى على سلم الهرم الاقتصادي.

بالمقابل، في الحالات التي يكون فيها الأب (أو الأم) على قدر كبير من “العافية المالية”، فلا بأس من احتفال يليق بتلك “العافية” ذلك أننا إزاء “فرصة العمر” بزواج الابنة أو الابن! وهنا، ثمة فارق، فارق كبير حقا، بين أن نفرح فرحة العمر، وأن نصرف – بانسلاخ كامل عن القضية الوطنية والقومية- على زواج ابننا/ابنتنا “المبلغ المرقوم أعلاه”. فلطالما كان دوما هناك فارق ما بين الكرم … و”البهورة”!!! وفي النطاق ذاته، ثمة فارق، فارق كبير فعلا، بين من يمارس “الكرم على الذات” أو على فلذة الكبد في احتفالية خاصة بالزواج فحسب … وبين من يمارس كرما غير منقطع في مسيرة العطاء العام!!! و”طوبى” للكريم، شامل الكرم، الذي لا ينسى العائلة والبلاد والعباد …..و”طوبة” تنزل على رأس “الكريم لمرة واحدة” (المتكارم فقط على نفسه وأهله)!! وبعبارات مكملة: ثمة فارق، فارق كبير أيضا، بين محبة أن يرى الله نعمته على عبده، وبين أن يرى عبده وقد أصبح عبدا (او عابدا) للمال، يصرفه (ولربما لا يصرفه) على نفسه أو عياله. بل إن الأنكى قيام “صاحبنا” بالصرف (على حفل الزواج أو غيره من الاحتفالات) فقط ليختال على الأرض مرحا وبالذات أمام أعين الناس الذين –في أغلب الأحوال- لن “يرحموه” من سياط ألسنتهم!

ولمن كان له، مثلي، الخبرة الطويلة في “استجلاب” التبرعات للقضايا الوطنية، مع ما يواكبها من معاناة أحيانا، سنجده –في حالات متكررة- منفطر القلب حزنا على حال ومئال الكثيرين الذين يكنزون المال كنزا، ويتصرفون وكأنهم يعيشون أبدا، غير مدركين أنهم إلى موات في الآخرة مثلما هم، ببخلهم، أموات في هذه الحياة الفانية. بالمقابل، سنجد الواحد منا يرتع منشرح الفؤاد وهو يرى غبطة الكريم بكرمه. وحسبي أنني قد صادفت في رحلتي قلة (والكرام… والكرماء… قليل!) أنعشت حياتي وبخاصة ذلك المسلم المؤمن الذي يتبرع (لصالح الوطن وعباد الله) بأكثر من نصف دخلة، وذلك المسيحي المؤمن الذي لا يعرف لفظة “لا” في تبرعه، وذلك العلماني –ولربما الملحد- الذي وجدته عميق الإيمان بقيم حميدة وعلى رأسها الكرم! ولهؤلاء جميعا مني، أم أقول منا جميعا، كل الاحترام والتقدير.

إن موضوع ومناسبة هذا البوح عندي ليس الفرحة الشخصية بزواج ابني البكر فحسب، وليس فقط لكونه قد حظي بعروس من إطار “الأصدقاء/الأهل” من آل النحوي وقدورة الأعزاء، وإنما هو بوح يأتي أيضا في سياق اعتذاري المسبق والمبكر عن عدم دعوة أحبائي وأصدقائي. فالدعوة،  صاحبها هو ابني وله قائمة مدعويه، وهي –بمعنى ساطع الوضوح- ليست دعوتي ولا أنا صاحبها. كما أن هذا البوح يأتي في سياق اقترابنا، حثيثا، من “موسم الزيجات” خلال هذا الصيف. وهي مناسبات أرى فيها فرصا متاحة لعطاءات قوامها، تحديدا، توزيع المال المخصص للأفراح التزويجية (ولعموم الاحتفالات) بحيث يذهب بعضه للوطن وصمود أهله. والوطن هنا هو فلسطين، أولا، نظرا لمحنتها. والوطن أيضا هو كل بلد محتاج في عالمنا العربي ثانيا، بل كل قطر فقير في العالم الثالثي (المسلم وغير المسلم) ثالثا. وإذ نشدد على ضرورة إحياء أفراحنا الخاصة (كل حسب قدراته) لكن بعيدا عن المسلك الاستعراضي، وإذ نشدد على الحق في أن نفرح بأبنائنا، نشدد أكثر على حق فلسطين في أن تفرح بتعزيز صمودها بقوة عطاء أبنائها فلسطينيين كانوا، ام عربا آخرين، ام مسلمين، أم غيرهم من شعوب الأرض. فهل من “سمّيعة” لندائي، أم سيصح فينا قول الشاعر: “قد كنت أسمعت لو ناديت حيا …. لكن لا حياة لمن تنادي”؟!!!