معتقلو إيرلندا.. ومعتقلو فلسطين

للتحرر من الاحتلال الأجنبي أشكال معترف بها اختبرها الزمن وسلكها ويسلكها كل شعب يرزح تحت الاحتلال. ومن المؤكد أنه لا يمكن اختيار وانتهاج شكل من دروب النضال دون الدروب الأخرى. فانتهاج الكفاح المسلح دون العمل السياسي قد يؤدي للفشل المحتوم لعدم وجود الغطاء السياسي. ومعروف أن تجارب حركات التحرر التي نجحت، انتهجت الكفاح المسلح والنضال السياسي معا. وإن كنا اليوم نتحدث عن إيرلندا وتجربة (بوبي ساندز) ورفاقه في ذكراها السنوية في الخامس من أيار/ مايو من كل عام، فلا يمكن أن ننسى فلسطين حيث التشابه كبير.

ربما يكون شكل ومضمون الكفاح التحرري السياسي السلمي أهم وأوسع أشكال النضال التحرري من الاحتلال الأجنبي. والشباب، بشكل عام، هم مخزون كل الانتفاضات التي هزت العالم في القرن الماضي، وتهزه هذه الأيام في العالم العربي. والحديث اليوم عن إيرلندا ونضالها العريق، وعن القائد السياسي لذلك النضال (حزب “شين فين”) يستدعي استحضار ذكرى (ساندز) وغيره من رفاقه الشباب الذين ماتوا نتيجة إضرابهم عن الطعام في 1981 ضمن حملتهم للحصول على حقهم في المعاملة بصفتهم “مسجونين سياسيين”. فقد أصبحت هذه التجربة درسا يقتدى به كل من يكافح لتحقيق التحرر وتقرير المصير. بل إنه يمكن اعتبار تلك التجربة مدرسة نضالية تستطيع تجاوز محاولات الاحتواء من طرف الأنظمة المحتلة بل وإنجاز هزيمتها أمام الرأي العام العالمي. فحزب “شين فين”، القائد السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي، سلك جميع الطرق المرعية والمشروعة للوصول إلى أهدافه بما فيها المفاوضات والمقاومة المسلحة. وبعد بدء محادثات “اتفاقية بلفاست” دون السماح لحزب “الشين فين” بالمشاركة, عادت الحكومة البريطانية فأجبرت على السماح للحزب بدخول المحادثات بعد تنفيذ “الجيش الجمهوري” تفجيرات أدت لخسائر مالية كبيرة.

لقد أظهر قادة وكوادر الجيش الجمهوري استعدادا عارما للتضحية بحياتهم من أجل قضيتهم, وهنا يأتي الحديث عن (ساندز) الذي قام بالإضراب عن الطعام هو ورفاقه الشباب من أجل الحصول على تصنيف “سجناء سياسة”، وبالتالي حصلوا على اعتراف بريطاني بجماعتهم. وأثناء إضراب (ساندز) عن الطعام، قام الإيرلنديون بانتخابه لمجلس العموم البريطاني! ورغم عضويته في “المجلس” إلا أن الحكومة رفضت الخضوع لمطالب “الجيش الجمهوري”. وتوفي (ساندز) بعد 66 يوما قضاها ممتنعا عن الطعام, وتبعه على درب الموت تسعة من رفاقه على مدى الأشهر الثلاثة التالية. وفي نهاية المطاف, استسلمت الحكومة البريطانية للأمر الواقع واعترفت بكون أسرى الجيش الإيرلندي “أسرى سياسيين”.

لقد مثلت تجربة (ساندز) ورفاقه المصداقية الكفاحية والثقة بالقدرة على النصر، وعززت الايمان لدى المقاتلين بحتمية النجاح. ذلك أن (ساندز) الذي أصبح وهو في السجن، وقبل شهر واحد من وفاته، عضو برلمان، ترك أثرا بالغا في مسيرة الجمهوريين، الأمر الذي حفزهم على الانخراط بصورة أكبر في خوض الانتخابات واستخدامها كسلاح جديد. وتتضح قيم (ساندز) الفكرية والفلسفية, في حق الإنسان وبالتالي الإيرلنديين (وغيرهم) بالمقاومة حين تتعرض بلادهم الى الإحتلال, وحق مقاتلي جيش إيرلندا الجمهوري السري بالمعاملة كمعتقلين سياسيين وليس كمجرمين. فأضحى الإضراب عن الطعام تعبيرا عن الاحتجاج السياسي، وكشف عن تحول كبير في ثقافة المقاومة السلمية. ومنذ البدايات، جمع الشعب الفلسطيني، في النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي، بين فلسطين وإيرلندا. فالقضيتان أيضا متشابهتان الى حد كبير بحكم كون الصراع في إيرلندا أيضا صراع تحرير ومطالبة بخروج المستعمر. وهو أمر جعل كلا من الشعبين يتعاطف مع الآخر ماضيا وراهنا حيث تكفي الإشارة إلى النجاحات الكبيرة التي تحققت مؤخرا في ايرلندا بشأن حملات مقاطعة اسرائيل.

لقد منحت الديانات السماوية والقوانين والمواثيق الوضعية الحق للشعوب الواقعة تحت الاحتلال انتهاج مختلف أشكال النضال التحرري من الاحتلال الأجنبي ونيل حريتها واستقلالها وبناء دولها المستقلة. وفي عالم اليوم، عالم التكنولوجيا والاتصالات، يضل من يظن أن معركة أي شعب لتحقيق مصيره يمكن كسبها بالسلاح وحده، أو بالإعلام فقط، أو بالعلاقات العامة. كما يضل من لا يجعل إلى جانب بندقيته أداة من أدوات التصوير وجهاز حاسوب. هنا علاقة متكاملة، فلا نجاح للاعلام دون البندقية، كذلك لا نجاح للبندقية وحدها دون الإعلام. لذا، فان ثقافة المقاومة والدفاع عن الذات مطلوب تعزيزها متكاملة مع ثقافة التحرر الوطني الإنساني, ثقافة محاربة القهر والجبن، والخوف والظلم والاستعمار بكل أشكاله. وانتشار ثقافة المقاومة، بأشكالها المختلفة، هي نتاج طبيعي للوضع المأساوي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب. لكن، كيف يمكن أن يقوم الإعلام بدوره في دعم وتعزيز ثقافة المقاومة والصمود في وجه المخططات العدوانية التي تستهدف حاضر ومستقبل ووجود الشعب الفلسطيني وباقي الشعوب العربية؟ هنا، ربما يجب التأكيد على ضرورة تطوير استراتيجية اعلامية عربية للدفاع عن الحقوق والقضايا والهوية العربية ومواجهة حملات التضليل والتشويه المتنوعة. وهذا الأمر يستلزم، بداية، بناء الكوادر الاعلامية المؤهلة للمساهمة الفاعلة في الاعلام المقاوم، والقادرة على تحديد الفارق لنا – قبل العالم – بين المقاومة والارهاب. ومن أحدث النجاحات، قيام الاعلام الفلسطيني المقاوم، ونصيره العالمي، بإظهار زيف وكذب الاعلام الاسرائيلي من خلال عرض الحقائق الدامغة خلال الحرب الصهيونية، سواء على لبنان (2006) أو على قطاع غزة (2008 – 2009).

إن نجاح شعب إيرلندا في نضاله المسلح والسلمي وبالتالي نجاحهم في التحرر من الاحتلال، يعطي شعب فلسطين الأمل بالتحرر. فأوجه الشبه بين التجربة الإيرلندية والتجربة الفلسطينية كبيرة. بل إن تجربة (ساندز) ورفاقه، بالذات، تضيف إلى التجارب العالمية رمزا إضافيا عظيما بين رموز الاستقلال والتحرر والعدالة والمساواة في العالم ومنهم: روح مقاومة الهند العظيمة المهاتما غاندي، والقائد الإسطوري نيلسون مانديلا، ومناضلا حركة الحقوق المدنية للسود في أمريكا مارتن لوثر كنغ ومالكولم اكس. كما أن الأساليب النضالية هذه تلهم الأسرى الفلسطينيين الذين يخوضون غمار إضرابات مفتوحة عن الطعام، وهاهم مؤخرا يهددون باللجوء إلى الطريقة الإيرلندية إياها.