في بلادي: في نيسان … يقتل الانسان؟

“في بلادي في نيسان … يقتل الانسان”. مقطع من شعر قرأته أمامنا زميلة أيام الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت. قول صحيح؟ نعم. ففي نيسان، سلبت الأرض وارتكبت المجازر أي جرى قتل للأرض … وللبشر. الآن، ونحن على وشك أن ينقضي نيسان، نستذكر شهداء فارقوا الدنيا في هذا الشهر أو في مثله: عبد القادر الحسيني، خليل الوزير، شريف الحسيني، وغيرهم كثيرون. رجال كان همهم الأساسي التركيز، حد الذوبان والإنصهار، على العمل الميداني والكفاح المسلح الذي صنف بعضه، أو جلّه، ضمن “الإرهاب”. وهؤلاء الشهداء، في مسيرتهم الدنيوية، ابتعدوا عن الأيديولوجيات الجاهرة والمعسكرات السياسية المتناحرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وإن كانت خبرتي مع الأخوة المذكورين، ستحتل مكانا مميزا في “مذكراتي” لاحقا، فإن ما يجمعهم من صفات جعلني أستذكرهم قبل رحيل “نيسان” الراهن: نضالهم، إنسانيتهم، حبهم للعمل في الظل والبعد عن الأضواء. فالصديق الحبيب شريف (الذي غادرنا قبل أسبوعين) لطالما كان “مطلوبا” في معظم الدول العربية. ولولا توسط الحبيب فيصل الحسيني لدى المرحوم الملك الحسين الذي اعاد لشريف الجنسية فتمكن من العودة إلى فلسطين ، لعاش متنقلا بين شطآن العالم. عاد شريف إلى الضفة وعاش في الظل وناضل في الظل دون وضع قانوني رسمي يسمح له بالنضال علنا. لقد أسرنا بدماثته ونحن الأصغر منه سنا في (النادي الثقافي العربي ببيروت) في ستينات القرن الماضي. مناضل متميز خاض المعارك دون صخب، ورحل دون ضجيج. لكن هذا الفارس الذي انكب على دراسة تاريخ فلسطين وكتب الكثير حول النضال المستمر للشعب الفلسطيني، انخرط وعدد من زملائه في (حركة القوميين العرب) عندما كان في العشرينات من عمره ولعب دورا طليعيا في تجنيد الطلبة للحركة التي قادها العملاق العربي الدكتور جورج حبش. وفي المجال الدولي، لعب شريف الحسيني دورا في تطوير البرامج السياسية والعملية للاتحاد العام لطلبة فلسطين. وبعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وبداية صعود فتح كقوة فلسطينية أولى، بدأت مهام شريف تتجه نحو مجالات أخرى كان أهمها العمل في المؤسسات البحثية للمنظمة، فانضم إلى مركز الأبحاث الفلسطيني. ومنذ النكسة، في العام 1967، تغير أسلوب النضال فانضم شريف إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتحق بغرفة عمليات المناضل النادر وديع حداد. ويكفيه فخرا أنه كان من أقرب المقربين لدى العملاقين: وديع وفيصل.

أما “أمير الشهداء” ورجل البدايات خليل الوزير، نائب القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، فقصته معلومة للجميع وأشهر من أن نستغرق فيها اليوم. فهو من أسطع رموز الكفاح الوطني الفلسطيني، بل هو “مدرسة كفاحية” لم تفكر سوى في إنجاز مشروع التحرير. هذا الرجل الذي شارك في تأسيس الثورة الفلسطينية وبناء أركانها وتشكيلاتها السياسية والعسكرية، قاد توجيه العمليات الفدائية النوعية من التدريب إلى التنفيذ، وآخرها عملية ديمونة في العام 1988 التي كانت –فيما يشاع- السبب المباشر لاغتياله. واليوم، يجدر بنا استذكار بعض أقواله: “إن الانتفاضة قرار دائم وممارسة يومية تعكس أصالة شعب فلسطين وتواصله التاريخي المتجدد”، “لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة”، “إن مصير الاحتلال يتحدد على أرض فلسطين وحدها وليس على طاولة المفاوضات”. وأخيرا، صيحته المجللة أصداؤها حتى اللحظة: “لماذا لا نفاوض ونحن نقاتل؟”. لقد سقط أبو جهاد في ساحة النضال وقاوم وأطلق رصاصات مسدسه على قاتليه. قاوم حتى آخر لحظة في حياته رغم الأثنتين وسبعين طلقة التي أصابته، فرحل الشجاع الصامت في وقت باشر فيه العمل على إحداث تغيير في مفاهيم حركة فتح للرجوع بها إلى زمن العاصفة الأصيل. ويكفيه فخرا اسمه “الحركي”: “أول الرصاص … أول الحجارة”!

قائدنا الأكبر عبد القادر الحسيني، حامل لواء الجهاد ضد الإنجليز والصهاينة اليهود، وقائد جيش الجهاد المقدس، الذي سقط (بل ارتقى إلى الجنة) في قرية القسطل بعد معركة ضد العصابات الصهيونية دامت ثمانية أيام، هو أيضا من أوائل الراحلين في نيسان. هذا الأسد، الذي زئر بعد رفض الجامعة العربية تزويده بالسلاح، قائلا: “جئتكم أطلب سلاحاً لأدافع به عن فلسطين، وأما وقد خُذلت، فأبلغكم أننا لن نرمي السلاح حتى النصر أو الشهادة، أنا ذاهب إلى القسطل، ولن أسأل أحدكم أن يرافقني، لأنني أعرف حقيقة مواقفكم، ولكني أحذركم بأن التاريخ سيكتب أنكم خذلتم الأمة وبعتم فلسطين.. وإن التاريخ لا يرحم أحدا”. ومنذ رحيله، شكل سجل عبد القادر الحسيني قصة جهاد طويلة تتصدر صفحات التاريخ الفلسطيني المعاصر، ونقشت تفاصيلها الدقيقة في العقل والوجدان العربي. ومن أقواله: “نحن الفلسطينيين أقوياء على الرغم من قلة عددنا، لأننا نؤمن بقضيتنا، ولأننا نعلم أننا مؤيدون من جميع الشعوب التي ليس لها مطامع خفية كحكوماتها. سنقاتل حتى النهاية، وسيقاتل أبناؤنا وأصدقاؤنا من بعدنا، نحن مصممون على القتال”. ويكفيه فخرا أنه، بهذا الاستخلاص، زرع الأمل وحدد دائرة الحلفاء والأصدقاء ورسم توجهات المستقبل الفلسطيني /العربي المقاوم.

شهر نيسان، في التاريخ الفلسطيني، يحوي سلسلة طويلة من الاغتيالات التي شنتها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، حيث انضم لقائمة شهدائه أيضا كبار … كبار من أمثال محمد يوسف النجار، وكمال ناصر، وكمال عدوان. كما تحمل ذاكرة هذا الشهر عناوين كان لها أكبر الأثر في الوعي الجمعي والمجتمعي الفلسطيني. ففي نيسان 1920، انطلقت الثورة الفلسطينية الاولى حين انتفض العمال والفلاحون الفلسطينيون ضد: الاستعمار الانجليزي، ووعد بلفور، والغزو الصهيوني. وفي نيسان 1929، اندلعت ثورة البراق من اجل حماية المقدسات والتراث والتاريخ. وفي نيسان 1937، انفجرت الثورة الكبرى التي أثبت فيها الشعب الفلسطيني قدرته على الكفاح والنضال بعد أن كان قد نفذ أطول إضراب شهدته حركة الشعوب المكافحة على امتداد تاريخها. إذن، في بلادي في نيسان، يقتل/ ويستشهد الإنسان نعم، لكن فيه أيضا يحيا/ ويزهر “ربيع” الكفاح الفلسطيني والعربي الموعود بالنصر.