حاجز خوف.. و.. حاجز خوف

يمكن اعتبار أحداث ما بات يسمى بـ “ربيع الثورات العربية” “انتفاضات/ ثورات/ احتجاجات” مباركات كسرت حواجز الخوف، ومنحت الشعوب مساحات يتحركون فيها لإبداء الرأي، ومحاسبة الفاسد مهما علا منصبه، والشكوى على الظالم بل والتنديد به، والمشاركة في النظام السياسي وتقديم المشورة وتعدد الاحزاب. وبذلك، دخلت الشعوب في حقبة جديدة لا تخاف الحكام ولا اجهزتهم القمعية وتعمل في ميادين التغيير الجذري.

ورغم كل ما سبق، فإن مسألة كسر حاجز الخوف لدى الشعوب العربية تبقى هي النقطة المركزية. وعلينا هنا التفريق بين حاجزين من الخوف تم كسرهما: أولهما تجلى في نجاح الشعوب العربية بكسر حاجز الخوف من أنماط الحكم السائدة، وثانيهما كسر أو تحريك حاجز خوف الأنظمة على مصالحها أو من إقدامها على الإصلاح. ففي الحالة الأولى اتخذ الحال شكل سلطة رئيس على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة، أي انفراد فرد أو مجموعة ضيقة بالحكم والسلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة بل ودون النظر إلى رأي المحكومين. سلطة مستبدة تمارس الحكم دون أن تكون هي خاضعة للقانون الذي يمارس فقط على (ضد) الشعب، دون أن ننسى أن الحكومة المستبدة مهما كان شكلها هي في المحصلة كارثة على نفسها وعلى مجتمعها. فهي حكومة تبرر الوسيلة وصولا للغاية التي غالبا ما تكون “شريرة”، وتحارب النصوص التي لا تتماشى مع استبدادها, تحرف الكلم عن مواضعه, وتحاول الظهور بمظهر الديمقراطية.
حاجز الخوف الأول، نجحت الشعوب العربية في كسره بعد مللها من الانزلاق في الأفخاخ التي ينصبها الحكام. فالمسألة عندها لم تعد تستدعي السكوت والصبر بعد أن تحولت الشعوب إلى أضاحي، وصارت البلاد تنوح بسبب نهب الأرض والخيرات والثروات. ومع انكسار هذا الحاجز، بات الحديث – حتى عند بعض الحكام المداهنين – عن “الروح الثورية” حديثا جميلا مرغوبا، علما بأن “الاحتجاجات” في العالم العربي أكدت أن هذه الروح لم تمت يوما، بل كانت في سبات عميق استجمعت بعده قواها ودقت جدران الخزان بنفسها.

واثر انكسار حاجز الخوف رقم (1) جاء دور الحكومات التي، ولكل خصوصيته، سعت لكسر حاجز خوفها في تعاملها مع الشعب. وسواء كان تأثير كسر حاجز الخوف الأول على الحكومات (إقناعا) لضرورة التغيير أو (خوفا) من إسقاط الأنظمة وإزاحتها عن كرسي الحكم فان خوفها تجلى بلجوئها إلى الحلول الأمنية (بكل مقارفاتها) خوفا (وحماية) لاستبدادها وفسادها. وبعيدا عن خصوصيات كل بلد وشكل الاحتجاجات والمطالب، كان لا بد للطرف الحاكم (نظريا على الأقل) من كسر حاجز خوفه بالإصلاح الحقيقي دون اللجوء إلى مزيد من القمع للمظاهرات المعارضة وتحريك مظاهرات التأييد السلمية أو حتى المبادرات الكلامية. وعليه، فعلى دول العالم العربي التي لم تقم ثورات ضدها إدراك كون مصلحتها ومصلحة شعوبها بالإصلاح الفوري ما دام هناك وقت يخدمها وإلا فإن الحل يتجسد في الرحيل.

لقد انكسر حاجز الخوف الذي شكل أساس بقاء الأنظمة الاستبدادية، وما عاد يجدي سوى دخول الحاكم (الذي يتوجب سقوط حاجز خوفه وخوف أعوانه من الإصلاح) في حوار وطني أساسه الاستماع وتبادل الرأي ومشاركة الجميع في الشأن العام، مع إعادة بناء مشروعية السلطة عبر انتخابات حرة، وإطلاق الحريات بأنواعها، ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان وعلى رأسها الفساد، ودعم قدرات المجتمع المدني لمراقبة إصلاحات مؤسسات الدولة خاصة القضاء والأمن، وإعادة بناء المجتمع السياسي ومكوناته الحزبية. وفي الحقيقة فإن هذا كله يصب في صالح كلا الطرفين: الشعب والنظام!. عندها لن تنجح قوى غربية باحتواء أي بلد عربي، ولن تجد شعبا عربيا خانعا، أو أنظمة ضعيفة تسرق ثرواتها تحت سمع وبصر شعبها، أو حتى أن تحمي ربيبتها إسرائيل من كل فعل أو رد فعل عربي ودولي!

اليوم، وبعد انكسار حاجز الخوف الشعبي، وتحريك حاجز الخوف عند الأنظمة، دخل العالم العربي مرحلة جديدة لن تقتصر على تونس ومصر، بل ستمتد إلى كل دوله. وهي في المحصلة مرحلة انتقال ديمقراطي بين ثورات وإصلاحات، عادت فيها مفردات الفكر القومي إلى الحضور بقوة: الثورة، الحرية، السيادة، والوحدة العربية. إنها رياح تغيير تؤسس لشرعية عربية جديدة: “الشعب مصدر السلطات”، ذلك الشعب الذي نجح عبر “عصف ثوري” رائع في إدخال العرب القرن الحادي والعشرين عبر بوابة العام 2011، بعيدا عن الجمهوريات الاستبدادية وتحالفها مع الفساد!

ومع تأكيدنا على ضرورة محاولة منع الغرب من محاولة استغلال هذه الثورات لتحقيق أهدافه، أو مساعي بعض الأنظمة محاولة إعادة إنتاج نفسها عبر إصلاحات شكلية وتغيير في الوجوه والكشف عن جزء من الفساد، نشدد على خصوصية كل بلد عربي، وأنه لا يمكن إسقاط الثورات بالباراشوت من السماء! فثورتا تونس ومصر السلميتان، تختلفان عن ما يحدث في ليبيا. ففيما نجحت الثورتان الأولتان، سلميا، جاء التدخل الأجنبي، بغطاء عربي ليناصر الثوار، في ليبيا مبعثرا الأوراق، ومصيبا الشعوب العربية بغصة نتمنى أن تزول سريعا. فمن جهة يتبع الغرب مصالحه دائما، ومن جهة ثانية، مرفوض علينا السماح للأجنبي بحل مشاكلنا ومن المفترض أن لدينا جيوشا وثروات واسلحة وقيادات قادرة على أخذ زمام الامور وحل مشاكلنا بأنفسنا دون الاعتماد على الحلف الأطلسي او الامم المتحدة. ونختم بما قاله (روبرت دي كابلان)، الزميل البارز في مركز الأمن الأمريكي الجديد، في مقال حديث: “الآن كل هذه الانتفاضات تبدو بعض الشيء، كما حدث في أوروبا الشرقية في 1989. ولكن كما هو في أوروبا الشرقية، سوف ينتهي حال كل بلد عربي بشكل مختلف قليلا. ففيما كانت بولندا والمجر مسارات سهلة نسبيا للرأسمالية والديمقراطية، غرقت رومانيا وبلغاريا في فقر مدقع لسنوات، وعانت ألبانيا نوبات عرضية من الفوضى، فيما انحدرت يوغوسلافيا الى الحرب الاهلية التي قتل فيها مئات الآلاف من الناس. لكن في العالم العربي هناك وسائل أكثر تنوعا من أوروبا الشرقية، وعلينا أن نلتفت لتفرد حالة كل بلد السياسية والتاريخية”.

Dr.asad

كاتب وباحث عربي، ومحلل سياسي مختص في القضايا الفلسطينية وشؤون الصراع العربي الإسرائيلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى