فجيعة ارتفاع عدد العاملين الفلسطينيين في “المستوطنات”: لماذا؟!

بالتزامن مع إعلان حميد للسلطة الوطنية الفلسطينية لتطبيق قانون بشأن حظر ومكافحة منتجات المستعمرات/ “المستوطنات”، وفي ذروة  الحملة الميدانية والإعلامية لمقاطعة منتجات “المستوطنات” ومحاربة العمل فيها، أعلن “الإحصاء الفلسطيني” مؤخرا نتائج مسح القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية، خلال الربع الأخير من 2010، فكانت النتائج بشأن العمل في “المستوطنات” مخيبة لآمال الفلسطينيين. ذلك أنه تبين ارتفاع عدد العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل و”المستوطنات” من (75) ألف عامل في الربع الثالث إلى (79) ألف عامل في الربع الأخير، مشيرا إلى أن قطاع البناء والتشييد سجل أعلى نسبة عمالة في إسرائيل وفي “المستوطنات” بنسبة 50.2%!!!

مع بدء السلطة الفلسطينية معركتها الدبلوماسية دوليا لكسب التأييد للموقف الفلسطيني من قضية “الاستيطان”، كان لا بد أولا من مواجهة مشكلة العمالة في “المستوطنات”. وهذا أمر لا يتأتى بتخويف العمال وترويعهم أو تخوينهم بل بمواجهة المشكلة ووضع الحلول لها وإيجاد فرص عمل بديلة وكريمة لهم ولأسرهم. ولقد أكدنا في مقالة سابقة على وجوب والزامية وقف الفلسطينيين من العمل في “المستوطنات”، لكن يبدو ان هناك عدم نجاح في جهود الحكومة الفلسطينية تجاه هذه المعضلة، وهي التي تغنت يومئذ بإصرارها على وقف هذه المهزلة، واقتناعها بقدرتها على منعهم مع مطلع العام 2011. ويبدو أن ما خلصنا إليه سابقا بشأن “تفرد الحكومة” باتخاذ القرار المتحمس والإعلامي الجوهر، دون الاستعانة بالقوى الحية في المجتمع، ودون دراسة مستفيضة للوضع، هما السبب وراء هذا الفشل حيث تم تجاهل النقطة المركزية وهي قدرة الاقتصاد الفلسطيني من عدمها تجاه تشغيل المتعطلين عن العمل في المجتمع الفلسطيني، فما بالنا بقدرته على استحداث فرص عمل قادرة على استيعاب عمال “المستوطنات”؟!!!
نعود فنكرر البدهية المعروفة بأن قرارا بشأن العمالة في المستعمرات الصهيونية يحتاج تنفيذه إلى إجماع وطني. وهو كذلك بحاجة لتحديد الآليات وتوضيحها، في ضوء التعامل مع خصوصية كل قضية، ووفق جدول زمني، وأن تطبيقا عشوائيا للقرار يؤدي إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل ويؤثر سلبا بشكل كبير على الاقتصاد الوطني وعلى نسب الفقر. وعليه، نؤكد حقيقة كون القرارات المتعلقة بمصير شعب وبقضاياه الكبرى لا بد لها، كي تجد طريقها إلى التنفيذ السليم، من رؤية وخطة عمل شاملتين، وهذا ما يبدو أنه غائب أحيانا عن نهج الحكومة الفلسطينية التي تتهم باعتمادها، في عدد من قراراتها، على العاطفة والحماسة فقط ضمن حملة شعبوية للتنفيس عن شعور وطني محتقن.

وبعيدا عن الشعارات الرنانة، نشدد على أن وضعا خطرا كهذا (ازدياد عدد الفلسطينيين العاملين في “المستوطنات”) يحتاج دراسة معمقة وخططا ممنهجة وصولا الى النتائج المرجوة، وفي طليعتها ايجاد البديل، لا أن ينضم آلاف العاملين هؤلاء الى جيش العاطلين عن العمل. وعليه، مطلوب من المستوى الرسمي الفلسطيني اتخاذ موقف ينجز مقاطعة شاملة “للمستوطنات” بكل مخرجاتها، في سياق العمل لإيجاد البدائل الحقيقية، دون الاكتفاء برفع الشعارات. وهناك محاولات فردية تثبت نجاح فكرة مقاطعة بضائع “المستوطنات” تفتح آفاق العمل لعشرات الآلاف من العمال محليا كبديل عن العمل في “المستوطنات”. فعلى سبيل المثال، بدأ عمال زراعيون فلسطينيون (عملوا سابقا في “مستوطنات”) بزراعة الزهور والفراولة في مزرعة “أبي درغام” في قرية تموم القريبة من “مستوطنات” شمال نهر الأردن، فيما يشكل بداية طريق لبدائل. ورغم تصميم الحكومة على فصل الاقتصاد الفلسطيني عن “المستوطنات” ومنع شراء منتجاتها، ومع أن السلطة الفلسطينية لم تصدر حتى الآن حظراً رسمياً للعمل في “المستوطنات”، فإن مشروع “أبي درغام” حصل على دعم عشرة آلاف دولار من الحكومة الهولندية فيما قيل أنه لم يتلق أي تمويل من السلطة الفلسطينية، رغم أنه مشروع اقتصادي ووطني واجتماعي وسياسي.

من واقع الحال، يتبين أن هناك خطوتين أساسيتين اتجاه تشجيع مقاطعة العمل في “المستوطنات” يفترض القيام بهما حتى يشعر العمال الفلسطينيون بجدية الجهات القائمة على هذه الحملة الوطنية: أولاهما دراسة ميدانية لواقع عمال “المستوطنات”، والقدرات المهنية لديهم، ونوعية المهن والأعمال التي يمكن استيعابهم بها، وهو أمر نتمنى أن نسمع قيام السلطة به. وثانيهما، تحديد برامج التدريب والتأهيل وفق مخرجات الدراسة الميدانية المفترض القيام بها لهذا الغرض، والتي يقال أن الحكومة تجاهلتها تماما، اللهم باستثناء الطلب من العمال تسجيل أسمائهم لديها للبحث لهم عن فرص عمل بديلة. كذلك، هل انه كاف حقا ما فعلته السلطة، وهي تشجع الصناعة الوطنية، للفلسطيني تجاه ذاك الذي يستطيع شراء منتج من مناطق السلطة لكنه لا يستطيع نقله الى منطقة سكنه بسبب حواجز الاحتلال التي تمنع وتصادر أي منتج يتم العثور عليه في حوزة الفلسطيني عند عبور الحاجز؟! وأين جهود السيد توني بلير التي لطالما أطلقت البشارات المتلاحقة لشعبنا بالمن والسلوى؟!!!

فى محاولة منها للخروج من هذه الدائرة المفرغة، أطلقت السلطة في آذار/ مارس 2009 مشروع “صندوق الكرامة لتشغيل عمال المستوطنات”، بهدف توفير ما بين 70 و80 ألف فرصة عمل، برأسمال قدره 50 مليون دولار، يتم جمعها من تبرعات القطاع الخاص الفلسطيني. ولقد استهدف هذا المشروع الجيد تشجيع التشغيل الذاتي، عبر دعم مشاريع فردية أو جماعية، خاصة من خلال منح العمال قروضا صغيرة تتراوح بين 5 إلى 10 آلاف دولار بفوائد بسيطة، على أن يتم سدادها خلال ما لا يقل عن أربع سنوات. لكن، حتى الآن، يقول مراقبون أنهم “سمعوا جعجعة ولم يروا طحنا”. لذا، تفعل السلطة الفلسطينية خيرا، إن هي أرادت أن تحقق نتائج ملموسة على الأرض، وضع خطة اقتصادية اجتماعية جديدة لاستيعاب اليد العاملة في بناء “المستوطنات” بقروض ومشاريع صغيرة ومتوسطة ومساكن شعبية، وتنفيذها خلال أشهر محدودة، إضافة إلى مساعدة أصحاب المشاريع من الفئات المحددة في الحصول على التراخيص الرسمية في تسجيل مشاريعهم ودعم التدريب على برامج كيفية إقامة مشاريع صغيرة.