“التسونامي السياسي العربي: محددات “نظرية المؤامرة”
ريح عاتية تهب على العالم العربي تهزه بشكل لم يشهد له مثيل. شرارات الاحتجاج في ذروتها بأماكن، وعلى الطريق في أماكن أخرى. ورغم أنه لا أحد يجرؤ على توقع النتائج كاملة إلا أن آثارها الإيجابية واضحة للعيان حيث تكمن فيها آمال عظيمة، وكأني بها لحظة اختبار ليس للعالم العربي بل وللعالم بأسره. فهي انتفاضات تمس مصائر شعوب قررت أن تأخذ، بأياديها، مصيرها نحو الحرية والازدهار والديمقراطية بعد أن ملت وعانت من الفساد والاستبداد ومن السياسات اليومية غير المؤسسة على خطة إستراتيجية بعيدة المدى.
رؤساء وحكام حكموا على مدى عشرات السنين أطيح بهم. حكومات رحلت بقوة ملايين المواطنين العرب الذين خرجوا الى الشوارع بعد إدراكهم لقواهم الهائلة وبعد تغييبهم عن دوائر صنع القرار المغلقة على فرد أو حفنة من الأفراد. برلمانات وصحافة ومراكز أبحاث (إن وجدت) فهي آخر من يعلم. وفي هذا السياق، انقسم العرب بشأن من هو صانع هذه الثورات؟ وبات النقاش الذي يطرح هنا وهناك بل من قبل بعض القادة المذعورين: هل هناك أياد خفية وراء ما يحدث؟! وهل هذه الثورات صناعة أجنبية؟! وبالمقابل، كان الطرح الآخر: بل هي، كما علمنا التاريخ، إرادة الشعوب التي لا تقهر والتي تصنع حاضرها وتحدد مستقبلها بإرادتها.
ومع “شرعية” الطرحين، ومع افتراض حسن النية والموقف المبني على الاقتناع، نرفض نظرية “المؤامرة” الراسخة في عقول البعض منا لتبرير الفشل باعتبار أن كل ما يدور من حولنا مدبر بليل حالك. هذا، طبعا، دون تكرار حقيقة وجود استراتيجيات وخطط بل ومؤامرات من دول تستهدف دولا وشعوبا أخرى. غير أن الشعوب – وهذا هو استخلاصنا – بتحديها لكافة أنواع القهر والاستبداد، واستعدادها للتضحية بكل ما تملك للإنعتاق من الظلم، قادرة على تقرير مصيرها بأياديها لأنها صاحبة القرار الذي تخطه بجهودها بعد إرادتها. والشعب عندما يقول كلمته قادر على إجبار أي سلطة قمعية بالرضوخ لإرادته. وفي إطار الحديث عن مخططات الدول الإقليمية والدولية الكبرى وهي مخططات قائمة فعليا، ومع الاعتراف بجزئية طروحات أصحاب نظرية “المؤامرة”، فإن ثمة قلة يمكن وضعها في سياق “الهوس”، إذ هي ترى أن وراء كل حدث مؤامرة، ووراء كل حقل قوة امبريالية أو يهودية (أو صهيونية) متربصة، تستهدف إما بناء الشرق الأوسط الإسرائيلي الجديد، أو إعادة ترتيب أوضاع العالم الغربي من أجل تعزيز مصالحه باستغلال الشعوب العربية.
الحقيقة لا تغطى بغربال. فأي طرح يتجاهل دور الشعوب، ليس العربية او الإسلامية فحسب، بل والشعوب وثوراتها بعامة، فيه تجاهل كبير وظلم أكبر لقدراتها. وحسبنا التذكير بحقيقة ما آلت إليه الأوضاع في المجتمعات العربية التي حدثت فيها (أو مرشحة فيها) الثورات: مجتمعات عليلة تفتقر: إلى كثير من المقومات، والدساتير التشريعية البرلمانية الإنسانية الملتزم بها والتي من شأنها كفالة وحفظ واحترام الحقوق الإنسانية والحريات والكرامة. مجتمعات تقوم فيها الحياة على “شرعة الغاب” يأكل فيها القوي الضعيف، فافتقدت التكافل الإجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وغابت الحقوق بل كل مقومات الحياة الإنسانية البشرية السليمة فعاشت الجماهير في ظل القتل والبطش والقمع وتكميم الأفواه والملاحقات والإذلال والمهانات الإنسانية والسجون والتعذيب. وهي، بذلك أضحت مجتمعات مغيبة مضللة مخدرة في ظل حكام لم ينتخبوا شرعيا ودستوريا، بل هم مفروضون بقوى بساطير الجيش والشرطة والقمع والبطش والملاحقات والرشاوى والفساد وتكميم الأفواه. لذلك، كان من الطبيعي أن تحصل الثورات بل وأن تنجح، فلماذا، إذن، الاستغراب من انفجار الشعوب العربية أسوة بغيرها من شعوب أخرى مرت بظروف مشابهة؟!
ومع نجاح الثورات هنا أو هناك، واستمرار أخرى على نفس المنوال، يبقى الأهم هو أن مشوار الشعوب في العالم العربي ما زال في بدايته. فركوب موجة الثورات سواء من الداخل العربي أو من الخارج تبقى المسألة الأخطر، رغم أن محاولات أحزاب بعينها من الداخل ركوب الموجة لا يعني أنها عميلة للخارج بقدر ما هي محاولة منها لتقنين هذه الثورات أو وضعها في سلتها وكأنها المفجر الأول لها، رغم أنه لا يحق لأي كان، جماعة أو حزبا أو تيارا أو حركة، أن ينسب الفضل في الانطلاق أو النجاح لنفسه. من المهم جدا القول أن إرادة الشعوب لن تكتمل دون مشاريع واضحة لأنه دوما هناك من يتربص بهذه الإرادة ليستغلها تحت شعارات رنانة. فإرادة الشعوب القوية والصادقة والبريئة هي التي يجب أن تصنع الحدث وحدها بفكر ناضج ومثمر، بعيدا عن الاستغلال والتوظيف لأرادة الشعوب من قبل جهة هنا أو جهة هناك بهدف إحتوائها. ومن هذا المنطلق، نشأ الخوف من محاولات احتواء أو انتكاسة تصيب الثورات، ونشأت مطالب إسقاط ليس رأس النظام وحده بل النظام كاملا. وباعتبار أن الثورة المصرية باتت ثورة يضرب بها المثل، هناك حالة من القلق والتخوف (تسود بين شبابها والمعارضة على حد سواء) جوهرها التخوف من تحول المكاسب التي حققتها الثورة إلى انتكاسة، وبالتالي الانقلاب عليها من قبل بقايا الحزب الحاكم. هذا الخوف مبرر، فلكل ثورة وإنتفاضة، هناك من يتقنون فن ركوب موجتها، فنراهم بعد أن تيقنوا من إنهيار النظام، وخشية من المساءلة، وأملا في استمرار اصطياد الغنائم والمكاسب، يجعلون من رعايا ورموز ومطايا للنظام الذي إنتفض الشعب ضده “ثوريين” و”منتفضين”.
الخطوة القادمة المطلوبة الآن هي السعي لبناء منظومة مطالب حقيقية تكون لبنات صالحة للبناء في المستقبل كإنشاء الجمعيات والأحزاب والمؤسسات التي تقوم على: الحرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحارب الفساد والفقر، وتهتم ببناء وطن للجميع لا يفرق بين فرد وآخر، وعليهم جميعا واجبات تتفق وإمكاناتهم وقدراتهم ويفرحون بمكاسب الوطن: المنجز الحقيقي الذي تفاخر به الشعوب. بالمقابل فإن الخطر يأتي أيضا من الخارج الذي لا محالة سيحاول هو أيضا ركوب الموجة، فلن يكل الغرب، أو حتى “الاقليم”، في محاولات إحباط وتشتيت أي تحرك شعبي عربي، ولن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام التغييرات الدراماتيكية بالنسبة لهم, كونهم أول المتضررين لما يحصل في منطقتنا العربية من تغيرات جذرية، خصوصا وأنهم يرون في تغير الأنظمة والسياسات غيابا وتراجعا لمصالحهم!!!