باراك: نموذجا للإسرائيلي المتطرف
مع قيام “إسرائيل” في 1948، تولى حزب الماباي، “والد” حزب “العمل” الحالي الحكم. وبقي الحال كذلك، حتى جاء اليمين – لأول مرة – إلى السلطة في ذروة “الانقلاب الانتخابي” 1977. ومنذئذ، بدأ تراجع حزب “العمل” ببطء حتى سجل أسوأ نتيجة في تاريخه بقيادة (ايهود باراك) في الانتخابات التشريعية الاخيرة (13 نائبا من أصل 120). فاليسار العمالي الصهيوني، الأب المؤسس لاسرائيل، بائتلاف أحزابه وحركاته الثلاث (الماباي، والمابام، وأحدوت هعفودا، ثم مع “حزب رافي” بعد انشقاق بن غوريون عن “الماباي 1965”) ظل يملك قوة مسيطرة في الكنيست لم تنزل في مستواها عن 59 مقعداً بين عامي 1949 و1969، فيما كان سقفها الأعلى في الفترة ذاتها 65 مقعدا. وقتها، تراوحت قوة اليمين القومي، ممثلا في حزب “حيروت” بزعامة (مناحيم بيغن) بين 14 و19 مقعدا بين عامي 1949 و1961. بل انه، حتى بعد تكتل اليمين وتشكيل حركة “جاحال”، لم يحصد ذلك التكتل سوى 27 مقعداً في انتخابات 1965.
ومع كون تصنيف الأحزاب الإسرائيلية الى “يسار” و”يمين” مضلل، فان انهيار “اليسار” الإسرائيلي ممثلا في “العمل”، مقابل تعاظم قوة “اليمين” ترجع إلى عوامل عديدة أساسها الأول يتجلى في كون “المجتمع” الإسرائيلي لم يعد يلمس فروقا أيديولوجية مهمة بين أحزاب اليسار واليمين. ولعل الدليل على ذلك هو الشراكة الحقيقية الحالية في الائتلاف الحكومي بين (بنيامين نتنياهو) و(باراك) بوجود (افيغدور ليبرمان). كذلك، ومن ناحية أيديولوجية، يجمع اليسار واليمين على “قيمة” الاستعمار/ “الاستيطان” وعلى أن “القدس الموحدة” عاصمة لإسرائيل وأنه لا عودة للاجئي 1948، بل إن ذلك “اليسار” هو “طبيب” زرع “سكين” جدار الفصل العنصري في “قلب” الضفة الغربية.
ومع انسحاب (باراك) من “العمل” وتشكيله حزب “الاستقلال” بهدف البقاء في السلطة، شن الكتاب والمحللون الإسرائيليون حربهم على (باراك) معتبرين أن “العمل” الذي أقام الدولة العبرية لم يمت عندما انسحب منه بل بدأ منذ أول مرة ترأس فيها (باراك) نفسه الحزب في حزيران/ يونيو 1997! ويضيف آخرون أن (باراك) في 1997 لم يتسلم حزبا في وضع جيد وبدأ يهدمه بمنهاجية، بل، كما يقول (عاموس كرميل) في مقال حديث: “وقف على رأس كيان سياسي شائخ، بعض من جذوره المبايية ضاعت منه قبل وقت طويل من انخراطه فيه، وقسم آخر (من الجذور) بقي ملتصقا (بالحزب) ولكنه لم يكف عن إثارة العفن، الخمول والنبذ الانتخابي”. فيما يقول (جدعون ليفي): “لقد دخل اليسار الإسرائيلي مثل فيروس الدودة قبل 15 سنة وبدأ الفتك به من الداخل. أمس أتمّ عمله: فقد جعل دولة اسرائيل رسميا هي الدولة الوحيدة في الغرب، باستثناء الولايات المتحدة، من غير حزب عمال ومن غير حزب اشتراكي ديمقراطي ومن غير يسار. لا يوجد شيء كهذا في اوروبا التي نشتاق جدا الى ان نشبهها. أصبحنا الآن أكثر شبها بالعالم الثالث الذي نريد ألا نشبهه كثيرا أي دولة مع حزب ونصف تقريبا”. ويتابع (ليفي) متخوفا: “قولوا منذ الآن: في إسرائيل (تقريبا) يمين قومي فقط ذو أسماء مختلفة عجيبة. فثمة الليكود، وكاديما، وشاس، واسرائيل بيتنا، والاتحاد الوطني، والبيت اليهودي، وأضف إليها حزب الاستقلال. عرّفه أحد عقائدييه الكبار وهو شالوم سمحون بأنه يقع بين الليكود وكاديما. إن عمل التخريب الذي بدأه ايهود باراك في مؤتمر كامب ديفيد، بلغ ذروته. لم يبق شيء. يجلس في وزارة حرب دولة اسرائيل ايضا رجل مُفسد فاسد: أنزل السياسة الاسرائيلية غير الشمّاء الى احدى دركاتها”.
منذ أن خسر “العمل” رئاسة الحكومة في شباط/ فبراير 2001، فقد الحزب تميزه المحدود في طروحاته السياسية إسرائيليا. فوجدنا كتلة “العمل” في حكومة (أرييل شارون) الأولى (2001- 2003)، ليس فقط تتماشى مع توجهاته المتطرفة، بل ظهر من يقف حتى على يمينه، مثل وزير “الدفاع” في حينه (بنيامين بن إليعازر) الذي فاز برئاسة حزبه لعدة أشهر. وجرت محاولات كثيرة للنهوض بالحزب مجددا، وتوالى على رئاسة الحزب خلال خمس سنوات ونصف السنة، ثمانية رؤساء: اثنتان (لشمعون بيريس)، قبل أن يغادر الحزب كليا في نهاية 2005، بعد خسارته أمام (عمير بيرتس). إلا أن أيا من هؤلاء الرؤساء لم ينجح في انتزاع الحزب من الخانة التي غرق فيها في الحلبة السياسية، “حزب ظل”، تابعا وليس مبادرا في حكومتين لشارون، وثالثة مع (إيهود أولمرت)، وأخيرا تابعا في حكومة (نتنياهو)، حيث أكد (باراك) في خطاباته، منذ أن وصل إلى وزارة “الدفاع”، أنه يقف عن يمين الحكومة، وليس من دليل على ذلك سوى شعور الادارة الاميركية بالغضب والاحباط منه بسبب مبالغته في الحديث عن دوره في عملية “السلام” وقدرته على اقناع (نتنياهو) بالاستمرار فيها، وأنه قام بتضليل “الرئيس الاميركي باراك اوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومسؤولين آخرين في الادارة الامريكية بشأن قدراته (السلمية) هذه”.
يقول (نداف هعتسني) في مقال بعنوان “لا نجعل باراك واسطة العِقد”: “يجب علينا قبل كل شيء أن نعترف بأن تزعزع اليسار وشكواه من استقلال باراك الجديد مُسليان على نحو خاص. أجل، يصعب ان نقول كلمة خير واحدة عن باراك. فهو انتهازي سياسي تقليدي، وليس له أي صلابة عقائدية ولا اخلاقية ربما، لكنه لا يختلف بهذا عن أكثر اعضاء الكنيست واللاعبين السياسيين اليوم. ومن المؤكد انه لا يختلف عن أكثر اعضاء “العمل” و”كديما” حيث الانتهازية الساخرة هناك هي اسم اللعبة”. ويختم: “الأشد اقلاقا هو مصير المجتمع الاسرائيلي. إن قضية باراك تثبت مرة اخرى مبلغ كوننا خاضعين لديكتاتورية مفاهيم وأفكار تقيم عالما معياريا معوجا وكاذبا يميل الى اتجاه سياسي واحد. إن أكبر تحد يواجه الحكومة الحالية قبل كل شيء هو موازنة المعايير العامة وحسم ديكتاتورية الأفكار”.