فلسطين وجنوب إفريقيا: ماض واحد.. ومستقبل واحد؟

عبر تطبيقها سياسة التفرقة العنصرية، تصر إسرائيل على إعادتنا بالذاكرة إلى جنوب أفريقيا في عهد حكم الأقلية البيضاء للأكثرية الأفريقية صاحبة الأرض. ومن ضمن تلك الذاكرة الاضطهاد العنصري الأبيض لسكانها السود وإنشاء البانتوستانات الأفريقية من خلال قيادات محلية من المستعمرين/ “المستوطنين” مرتبطة بنظام التفرقة العنصري للبيض وحكومته المركزية. فأوجه الشبه والمقارنة بين المجتمع الإسرائيلي وبين مجتمع جنوب إفريقيا السابقة واضح وجلي. فإذا ما نظرنا إلى حجم الظلم الذي توقعه إسرائيل بالفلسطينيين فسنجد أساسا للمقارنة مع نظام جنوب إفريقيا السابق. وإن كانت المعاناة ذاتها، فلابد أن تكون النتيجة/ النهاية واحدة أيضا.

في ضوء شواهد الدراسات العديدة الموثقة، فإن التشابه كبير في القضية الفلسطينية مع قضية جنوب أفريقيا. بل إن الرغبة الإسرائيلية الراهنة والمحمومة في تنفيذ أكثر من بانتوستان فلسطيني، يذكر باجتياح الشرطة والجيش في حكومة البيض لباندوستانات أحياء السود الفقيرة في جنوب افريقيا. والمتابع للمزاعم الإسرائيلية، وخاصة تلك المتعلقة بقوانين الأرض والسكان، يدرك الرغبة الإسرائيلية بإنجاح حل/ خطة التفرقة العنصرية. فوزير الخارجية الإسرائيلي ورئيس “اسرائيل بيتنا” (افيغدور ليبرمان) يطرح، وكبديل لحل الدولتين، مأسسة عملية لنظام “ابرتهايد” في الضفة الغربية من خلال تسريع خطط تمزيق اوصال الوحدة الاقليمية للضفة بحواجز “استيطانية”، و”معابر”، وطرق التفافية، وجدار الفصل العنصري، فيما تحارب فلسطينيي 48 رافضة دمجهم كمواطنين متساوين في الحقوق. حقا، نحن أمام سياسة عنصرية إسرائيلية تعتمد كثيرا على مبدأ العقاب الجماعي والتخويف والإرهاب، تماما كنظام بريتوريا العنصري السابق، حيث أثبتت إسرائيل للعالم أجمع بأن نظامها العنصري هو توأم نظام الأبارتهيد في جنوب أفريقيا السابقة فكرا وممارسة. فالحديث عن التجربة العنصرية التي مورست في جنوب أفريقيا، وتشابهها مع التجربة العنصرية الصهيونية تبين مقارنات وتشابهات وقواسم مشتركة وعلاقات لها دلالاتها على مستوى الفهم، وأيضاً لها دلالات على مستوى النتائج. ففي فلسطين، أدت التجربة الاستعمارية/ “الاستيطانية” إلى تطوير فلسفة عنصرية خطيرة مماثلة للأبارتهايد والمعروفة بالفلسفة الصهيونية، فكلا النظامين قاما على المقولات المتشابهة (ولو غير المتماثلة) الزائفة في المجالات التاريخية والعرقية والدينية، وعلى نفس الروح المتغطرسة المتعالية، دون أن يكون لهذه المزاعم ما تفعله إزاء حقائق التاريخ الفعلي لفلسطين وجنوب أفريقيا على السواء.

لقد سنّ كلا النظامين كثيرا من القوانين العنصرية التي تحكم العلاقة مع الآخر، سواء أكان فلسطينيا أو إفريقيا أسود، كقوانين (السكن، الحركة والتنقل، العمل والوظائف، التعليم، مصادرة الأراضي، وقوانين الهجرة والمواطنة والجنسية.. الخ). ورغم كون الحال كذلك، نجحت الحركة الوطنية في جنوب أفريقيا في تحقيق الوحدة والنصر. ومن جهته، تابع الشعب الفلسطيني نضال جنوب افريقيا على مر السنين، واستلهم مما واجهه أبناءه من عذابات وظلم وقهر وتمييز في سبيل انتزاع حقه والتخلص من ظلم العنصرية، فبات نضاله مصدر الهام واشعاع للفلسطينيين في النضال من أجل حرية فلسطين. فلقد أدرك الشعب الفلسطيني أنه، رغم كل الصعاب واختلال موازين القوى، قادر، بالوحدة والتصميم، على انتزاع النصر وتحقيق اقامة الدولة المستقلة، والعيش على أساس الحرية والعدل. وهو ما أكدته (ريتس نعومي) مفوضة العلاقات الخارجية في حزب المؤتمر الوطني الافريقي، خلال زيارتها لفلسطين على رأس وفد من الحزب، وهي التي ناضلت لسنوات في جنوب إفريقيا. فقد قالت: “مر الحزب بكثير من المراحل للتخلص من الاحتلال والتمييز العنصري، غير أنه انتصر في النهاية بعدما عمل على توحيد كل الجهود ضد العدو القائم على الاستعمار، وقام باحتضان كافة الأعراق والأصول، حيث انضمت اليه جميع الحركات والمنظمات والنقابات العمالية، ومنظمات الشبيبة والمرأة، وغيرها، وهو ما أوصل الحزب لعلاقات حميمة في كافة تشكيلاته، في وقت كانت فيه الحرب الباردة على أشدها”. وأضافت: “سياسة الحزب كانت تتمثل في اعتبار جنوب افريقيا بلد لكل من يعيش فيه، لذا كان من الصعب أن يصوت ضدنا أحد في أروقة الأمم المتحدة، كما انضم الينا اعضاء في حركة عدم الانحياز، وفي المقابل شاركنا في منظمات مرموقة تؤثر على اصحاب القرار في العالم، وهذا شجع كثيرا من البلدان في العام لفتح ممثليات لها في بلدنا، اضافة لبعض المصالح لهذه البلدان، حيث توسعت الدائرة وذهبنا للخارج وانتشرنا خارج القارة”.

إن كانت إسرائيل لم تدرك بعد حقيقة أن الإجراءات التعسفية لأي مجتمع عنصري تحمل في ذات الوقت بذور فناء هذا المجتمع، وان الإجراءات العنصرية عادة ما تولد ديناميكيات جديدة للرد على هذه الإجراءات وتكون مسنودة بحالة تعاطف خارجي لا محدود، فعلى القوى الفلسطينية إدراك أن الشعب الفلسطيني (والقضية) خسرا جزء من صورتيهما البهيتين أمام العرب والمسلمين والعالم أجمع. ففي مواجهة المشهد الفلسطيني بات المطلوب من القوى الوطنية الوحدوية إدراك مسؤوليتهم باخراج الحالة الفلسطينية الراهنة من النفق الانقسامي الذي يمثل صفحة سوداء من تاريخ الشعب الفلسطيني، والعمل على استعادة الوحدة الوطنية الشاملة، والاتفاق على خطة وطنية متكاملة لمواجهة المخاطر والتحديات التي يواجهها شعبنا الفلسطيني. فبالوحدة فقط يمكن الرد على جرائم الاحتلال التي يجب أن تكون عامل وحدة. لذا، على القوى الوحدوية في فتح وحماس استلام زمام أمور نزاعهما القائم – موضوعيا – على “وهم مبين”! فأي حكم، وأي سلطة، وأي أمن، وأي وزارات، هذه التي يتنازعان عليها؟! ولن يفيد الحركتين التعنت وتمسك كل طرف بتحليلاته ومواقفه، وهما بحاجة إلى إعادة نظر وتأمل في مواقفهما وسياساتهما قبل “خراب مالطا”، فالحرب الاعلامية وتبادل الاتهامات العبثية والاعتقالات، كلها عوامل تبعث على اليأس، وتبعد الجماهير عن الطرفين، وتحبط همم الشعب. وهنا، ربما توجب علينا أن نختم بما جاء على لسان نعومي نفسها، وهو أمر ربما نسته أو تناسته حركتا فتح وحماس، حين قالت: “البعض في المجتمع الفلسطيني يصف اسرائيل بأنها قوية وتمتلك الاسلحة، لكنهم نسوا أن الفلسطينيين يمتلكون روح الحرية التي لا تموت وتبقى تجدد نفسها بنفسها، وتبني قوتها من حين الى حين”، مؤكدة أن “الشعب الفلسطيني لا يمثل شعبا مرهقا وفاقد القوى ويتطلع لحنان الآخرين، وانما هو شعب مقاتل يريد بناء مستقبل”.