انحرافات «الربيع».. هل بدأت من فلسطين؟

تاريخياً، لن يسأل الناس مع من كان الحق حين وقع الانشقاق الفلسطيني الأول بين «معسكر الحسينية» بزعامة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني و«معسكر النشاشيبية» بزعامة راغب النشاشيبي، وهو الانشقاق الذي أدى في عام 1948، ضمن عوامل أخرى مهمة، إلى ضياع 78.5% من أرض فلسطين التاريخية. وحاضراً ما يعانيه المشروع الوطني الفلسطيني اليوم من «فقدان الاتجاه الموحد» ليس بالجديد. أيام الاحتلال البريطاني، وإن كان الصراع بين «الحسينية» و«النشاشيبية»، قد اتخذ شكلاً عائلياً وليس فكرياً وأيديولوجياً، فقد حمل مضامين سياسية ارتبطت بطرق العمل الوطني وبشكل العلاقة بالاحتلال البريطاني آنذاك. لاحقاً، استمرت أزمة عدم القدرة على التوحد، وإن بأدوات وطرق أخرى، عندما نشأت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة المرحوم أحمد الشقيري وسط مقاطعة الفصائل الفدائية آنذاك وخصوصاً حركة «فتح» التي اعتبرت (المنظمة) مشروعاً عربياً للهيمنة على العمل الوطني الفلسطيني. غير أن الأزمة الراهنة انحدرت نحو واقع انقسامي خطير أدى إلى نشوء «كيانين» سياسيين متضادين تحت الاحتلال/ الحصار الإسرائيلي.

لقد قيل إن «الربيع العربي الحقيقي» بدأ في فلسطين متمثلاً في الانتفاضة الفلسطينية الأولى الشاملة (1987). غير أن هذه الانتفاضة سرعان ما أعطت نتائج باهظة الأثمان (تفاقم الاستعمار/ «الاستيطان»، وتهويد القدس) ما غطى على الإنجازات. وقبل أن تتحول الظاهرة التي حملت اسم «الربيع العربي» إلى كارثة مدمرة خيبت آمال كثيرين اعتقدوا أن هذا الحراك هو الطريق الذي يقود إلى تغيير حقيقي في العالم العربي، حدث أول انحراف حين أدت الخلافات في الساحة الفلسطينية بين حركتين مختلفتين أيديولوجياً وسياسياً («فتح» و«حماس») إلى وجود سلطتين: الأولى في الضفة الغربية والثانية في قطاع غزة، فتحول الفصل السياسي والأيديولوجي والتنظيمي إلى فصل جغرافي أيضاً!
مع اندلاع ما سمي «الربيع العربي» كانت بعض الشعوب العربية تتجرع مرارة أنظمة الفساد والاستبداد «الكيميائي المزدوج».

وجاء الأخطر حين انفجر الاحتقان الطائفي الذي كان كامناً على الصعيد الديني والتقسيم العشائري والطبقي، فاستشرى الصراع المذهبي/ الطائفي والعرقي/ الإثني في الجسد الشعبي العربي.

لقد تحققت، جراء ما سمي «الربيع العربي»، بعض ما يراه أنصاره إنجازات مثل كسر حاجز الخوف في تلك الدول، وكسر حاجز احتقار النظام لشعبه وتهميشه لهذا الشعب، ونشر وتعظيم قدرة المواطن على التعبير والمشاركة في التغيير، وبث وتكريس شعور المسؤول من المحاسبة راهناً ومستقبلًا، وكسر الاستبداد المركب (سياسياً واقتصادياً وإعلامياً)، واشتراك الشباب في عملية التغيير بل وريادتهم فيها في بعض الأحيان، وتقييد آليات تزييف صناديق الاقتراع، علاوة على كشف ما يسميه البعض «الدولة العميقة». وقد توهم المواطن العربي في البداية بعض الإنجازات جراء «ربيعه»، ولكن في ظل غياب القيادات والبرامج البديلة، والتخوين والتشدد في المطالب وصعوبة تقبل الآراء المخالفة، واستشراس «الدولة العميقة» في بعض الحالات، ظهرت انحرافات «الربيع العربي» وأدت، في المحصلة، إلى ضرب الدول الوطنية/ القطرية العربية، بل تفتيت بعض الدول أو سلب قدراتها إما بتدمير قوتها كما في العراق مع خطر خطط التفتيت والتقسيم، أو سوريا التي أضحت دولة فاشلة، ناهيك عن ما يجري في ليبيا واليمن.

فانحراف المسار، هو عنوان المرحلة العربية الحالية، سنوات عجاف يسيل فيها الدم العربي بالمجان، لنكتشف أنه لا ثورات بل تجزئة المجزأ، وتقسيم المقسم. انحرافات خطيرة في مسار «ربيع» أثار آمالاً بإمكانية التخلص من أنظمة ديكتاتورية وبناء البديل الديمقراطي القادر على إنقاذ الشعوب العربية من التخلف. ومؤسف أن «المعارضات» (ولربما الشعوب) العربية لم تتحصن لسد الطريق أمام انحراف «الربيع العربي» ما أدى إلى الانزلاق في متاهات حروب أهلية مدمرة، وها هي الآمال تتعثر بفعل هيمنة قوى ذات أجندات خاصة. والآن والحال كذلك، هل تتحقق طروحات متفائلة قوامها أن «الشعوب ولادة»، وأن «التاريخ، رغم الانحرافات والتعرجات، يمضي دوماً إلى الأمام؟». سؤال مرير برسم التاريخ!