الحركة الأسيرة الفلسطينية: ما لها، وما عليها؟

 
عرف الشعب الفلسطيني السجون منذ وعد بلفور في 1917. واستمرت المعاناة ذاتها مع الاحتلال الإسرائيلي حيث ذاق الشعب الصابر أشد أنواع القهر في صراعه المتواصل مع الاستعمار والاحتلال. وعليه، تاريخ الحركة الأسيرة هو تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، فجنودها هم أبناء الشعب الفلسطيني بكل فئاته: شيوخا ورجالا ونساء وأطفالا. “مليون فلسطيني دخلوا السجون الإسرائيلية منذ عام 1967. و38 أسيراً يقضون أكثر من عشرين عامًا في السجون الإسرائيلية، ولم يقض أي أسير في العالم ما يقضيه المعتقلون الفلسطينيون من سنوات داخل الأسر”.

التقرير الذي أصدره مؤخرا “نادي الأسير الفلسطيني”، وهو أحد المؤسسات البارزة في الدفاع عن المعتقلين والأسرى والمحررين الفلسطينيين، يؤكد أن حصيلة الاعتقالات الإسرائيلية عام 2016 طالت ما مجموعه “(6440) مواطنًا كان من بينهم (140) إمرأة و(1332) قاصرًا”. ويتبين أن “فئتي الشباب والفتية كانتا الأكثر عرضة لعمليات الاعتقال، إضافة إلى أنهما أكثر الفئات التي تعرضت لاعتداءات جسدية خلال حملات الاعتقال التي نفذها جيش الاحتلال بشكل يومي”. هذه الأرقام تشي بحقيقة السياسة الإسرائيلية، وما تستهدفه من وراء الاعتقالات المتتابعة وسجن الآلاف، وهو خوف الاحتلال الدائم من ظاهرة نضالية فلسطينية متجددة. ففي السنوات الأولى لانطلاقة الثورة الفلسطينية 1965، ركزت الحركة الأسيرة على البعد التوعوي والتربوي فنجحت في بناء كوادر قادرة على القيادة وتحمل المسؤوليات رغم ظروف الاعتقال القاسية، فأرست هذه الكوادر دعائم وأسس الحركة الفلسطينية الأسيرة. ومع انطلاق الانتفاضة الأولى 1987، تقدم الصفوف أبناء الحركة الأسيرة من مختلف التنظيمات، فأظهرت القيادة انضباطية تجاوزت بها كل اشكاليات الحركة الوطنية. ومنذ بداية انتفاضة الأقصى 2000 واعتقال الآلاف الجدد، أعادت الحركة الأسيرة ترتيب أوضاعها الداخلية بصورة خاصة، فاحتلت قضية الأسرى موقعا هاما دفع عديد المؤسسات الحقوقية والإنسانية للعب دور داعم للأسرى، فازدادت حملات المساندة، واتسعت مساحة فعاليات التضامن الجماهيري المستمرة حتى اليوم.

مع ذلك، لا نستطيع إغفال ما طرأ على واقع الحركة الأسيرة بعد اتفاق أوسلو، حيث عابها غياب المنهجية التربوية والإعداد الحقيقي للمعتقل عند معظم القوى الفلسطينية، حتى جرى تفريغ الحركة الأسيرة غالبا من المحتوى السياسي، وغدا الاعتقال وظروفه عبئاً على المعتقل نفسه وعلى التنظيمات، ورافق ذلك، حملات الإفراجات السياسية ضمن استحقاقات ما سمي “عملية السلام”، وهنا بدأ الشرخ يتسع: تصنيف المعتقلين إلى فئات بحسب مواقفهم ومواقف منظماتهم من اتفاق أوسلو، والتمييز بين الأسرى الذين اشتركوا في عمليات قتل فيها إسرائيليون، واتهامهم بأن “أياديهم ملطخة بدماء اليهود”، فأصبحت قضية الأسرى والمعتقلين أحيانا ورقة ضغط في يد الدولة الصهيونية تستخدمها للابتزاز ومحاولة إجبار الطرف الفلسطيني على تقديم التنازلات، رابطة الإفراج عن الأسرى بالتقدم في مسيرة المفاوضات.

تراجع دور الحركة الأسيرة مع تراجع الاهتمام الدولي والإسلامي والعربي بالقضية الفلسطينية ثم جاءت الضربة الكبيرة بما أحدثه الإنقسام الفلسطيني/ الفلسطيني. فمنذ العام 2007 انقسمت الحركة الأسيرة مثلما انقسم المجتمع السياسي الفلسطيني، وباتت تعيش أزمة تمثلت في شرخ فلسطيني/ فلسطيني داخل سجون الاحتلال. وهذا ما أكدته وثيقة جريئة وشفافة أصدرها مؤخرا قادة الحركة الأسيرة في مسعى منهم لإحياء دور حركتهم واستعادة قوتها: “في ضوء ما وصلت إليه الحركة الأسيرة الفلسطينية من حالة الضعف والترهل والانقسام، وغياب العمل المشترك والموحد منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وفي ظل الاستغلال المستمر من قبل سلطات السجون لهذا الواقع الصعب، واستفرادها بكل سجن أو قسم أو فصيل أو مجموعة، وانطلاقًا من القناعة التامة من أن الإرادة الجماعية للأسرى ترفض استمرار هذه الحال، فلقد اتٰفق على أهمية العمل المشترك والتنسيق المكثف لتحقيق مطالبنا”.

عبر السنوات، استشهد المئات من الأسرى الفلسطينيين في أقبية التحقيق، وجرى كل ذلك ويجري تحت غطاء “القانون” الإسرائيلي، بذريعة (محاربة الارهاب). فالأسرى والمعتقلون في كافة السجون والمعتقلات الإسرائيلية يتعرضون إلى أبشع الأساليب اللاإنسانية التي تتجاوز أبسط القيم والأعراف الإنسانية في العالم، خاصة سياسة الإهمال الطبي التي تسببت باستشهاد الكثيرين، فضلا عن الجهاز الطبي الذي لعب لمصلحة السجون دوراً قمعياً واستخبارياً مستغلاً حاجة الأسرى للعلاج لمساومتهم على شرفهم الوطني إضافة إلى مساهمته في قتل عدد من الأسرى. كما كشفت الصحافة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة عن تنفيذ (1000) تجربة طبية على المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال. إلا أنه رغم الوحشية في السجون، نجحت الحركة بتحويل المعتقلات إلى مدارس ثورية خرجت الكوادر الحزبية المنظمة التي استطاعت أن تعكس تجربتها النوعية في مجالات كثيرة ووسط الجماهير في الميدان، بل إن الحركة ذاتها، ومن داخل السجون والأسوار، لعبت دور المبادر السياسي والرقيب على الفصائل وساعدتها على النهوض بواقعها عبر أكثر من وثيقة حثت على الوحدة الوطنية ورسمت خطها السياسي النضالي. وحقا، قضية الأسرى ومبادراتهم هي أحد عناوين النضال الوطني الفلسطيني، وتاريخها ما زال تاريخا يزداد إشراقا يحوي الكثير من المعاني والدلالات التي تنبض بالحياة.