هاني الهندي: حكاية «ميت.. له مستقبل»

د. اسعد عبد الرحمن

في العاصمة الأردنية، ليلة 16/ 12/ 2016، رحل قائد من قيادات الفكر القومي المتنور؛ صديق العمر ورفيق الدرب، السوري الدمشقي هاني محمود الهندي (أبو محمود)، أحد أبرز ثلاثة (هو نفسه، د. وديع حداد، د. أحمد الخطيب أطال الله في عمره) من رفاق الدكتور جورج حبش الأوائل في تأسيس حركة القوميين العرب. وكان الفقيد الكبير قد ولد في بغداد يوم 19/10/1927 وترعرع في سورية ودرس في بيروت وعمل فيها.

عرفته منذ نهاية عام 1968 فور خروجي من السجون الإسرائيلية مبعدا إلى خارج فلسطين. وبما يشبه لمح البصر، أصبحنا صديقين شبه متطابقين في الميول السياسية والثقافية والفكرية، وسرعان ما نمت هذه العلاقة اجتماعيا بين عائليتنا، واستمرت دون أن تشوبها شائبة حتى لحظة رحيله. وحين تحصلت على شهادة الدكتوراة من كندا في مطلع 1973، وبعد أن تقطعت بي السبل، كان عونا كبيرا لي حين زودني بتذكرة سفر إلى بيروت حرصا منه على عودتي للوطن. ومنذئذ، واللقاءات والصلات المكثفة الشخصية والعائلية وطبعا الفكرية/ السياسية قائمة بيننا، سواء في بيروت أو عمان أو غيرهما.

برحيله، يكون الستار قد أسدل بشكل شبه نهائي، على كوكبة من فرسان هذه الأمة، الذين بعثوا الأمل فيها، وتمسكوا بثوابتها القومية، وأرادوا لها مكانة متميزة بين الأمم. وفي السياق، وحتى اللحظات الأخيرة من حياته، لطالما «فاجأني» في لقاءاتنا المستمرة، بتفاؤله التاريخي على قدرة هذه الامة على النهوض من كبوتها، مؤمنا بحتمية وحدتها، منتصرا لقضاياها وبخاصة قضية فلسطين، منحازا الى الضعفاء في مواجهة الأقوياء.

سيرة الراحل الكبير (أبي محمود) حافلة بمحطات نضالية وسياسية ممتدة منذ أواسط أربعينيات القرن الماضي (سواء يوم أسس ونشط في «كتائب الفداء») أو يوم أسهم في تأسيس «حركة القوميين العرب» و»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» حتى لحظة الرحيل. فلقد بقي، طيلة حياته، مخلصا وأمينا وعاملا لدفع أفكار القومية العربية والوحدة العربية وتحرير فلسطين، قولا وفعلا، والتي ظلت دوما في القلب منه، ومنها.

مسيرته النضالية والسياسية عبارة عن سيرة عطرة عابقة بالنشاط القومي والمقاومة التي ورثها عن والده المرحوم الضابط العربي السوري محمود الهندي الذي كان أحد مؤسسي الجيش العراقي وأحد قادة جيش الإنقاذ في فلسطين، وشارك في حركات المقاومة المتعددة التي برزت بعد حرب 1947-1948، واستمر في هذا الطريق، ووجد أن السبيل الوحيد لاسترداد فلسطين يمر عبر أمة عربية موحدة القوى، وموحدة الأهداف.

ترك (أبو محمود) وراءه إرثا نضاليا مكتوبا وثق فيه تاريخ حركة القوميين العرب مثلما وضع أكثر من مؤلف عن فلسطين التي ارتبطت حياته بقضيتها وبالكفاح من أجلها، فصدر له (12) مؤلفا، عن القومية العربية، وحركة القوميين العرب، والقضايا العربية المتعددة، ومنها «إسرائيل- فكرة- حركة- دولة». وهذه الكتب شكلت لنا في «حركة القوميين العرب»، مادة تثقيفية ثرية.

لقد خسرت الأمة العربية بوفاة القائد هاني، أحد مفكريها وقادتها وهو الذي وهب حياته من أجلها وفي سبيل رفعتها ووحدتها. تلك الوحدة التي شكّلت حلمه الأكبر مع كل إخوانه العروبيين، فناضل لقيام أول تجربة وحدوية معاصرة عام 1958، ثم ناضل ضد انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961 وبعدها، وأصبح وزيرا للتخطيط في الحكومة السورية التي أطاحت بحكم الإنفصال عام 1963، وظل صديقا قريبا من عقل ووجدان القائد الراحل جمال عبد الناصر وغيره من شرفاء العرب ليس فقط كونه أسهم في تأسيس «حركة القوميين العرب» وإنما أيضا لأنه أسس «أكاديمية» عمادها التواضع، واحترام الذات، ونظافة اليد واللسان، واتباع أرفع أنواع التهذيب في المعارضة السياسية، والابتعاد عن المبالغة والتهويل، والتمسك بالصدق، والحرص على الثبات والمصداقية في القول والموقف معا. وهو -ضمن ندرة نادرة- سيدخل التاريخ العربي لأنه اختار الترجل من سدة القيادة لإفساح المجال أمام أجيال جديدة لتأخذ دورها وتتحمل مسؤوليتها.

لقد كان المناضل المؤسس الهندي فارساً من فرسان الحركة القومية العربية المعاصرة الذين تجنبوا الاستعراضية في العمل، والمزايدة في المواقف، والفوقية في العلاقات، والسطحية في المعالجات، فبقي له الموقع الاستثنائي في قلوب رفاقه وعارفيه وعقولهم وضمائرهم، فأصبح «القاسم المشترك» لكل الإتجاهات والتيارات في أوساط الرفاق القدامى والجدد. ولا غرابة في ذلك، ففكره إنساني تقدمي، وسلوكه كذلك، وله طاقة هائلة على الاستماع قبل أن يحاكم موقفا أو شخصا مما جعله نموذجا للحكم المتنور، العادل.

رغم محاولة اغتياله من قبل السلطات الإسرائيلية بتفجير سيارته في قبرص في 3/ 1/ 1981، وبتر ذراعه اليسرى، وإصابة أمعائه، وتجلط دمه، وفقدانه السمع نهائيا في إحدى أذنيه وتعطل الأخرى، وبقائه في حالة حرجة أربعة أشهر كاملة، إلا أنه ظل – وأنا شاهد على مواقفه وهو على فراش العلاج – رافضا كل الحلول الإستسلامية مع الكيان الصهيوني ومثابرا على نضاله في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

صحيح أن هاني لم يحقق ما حلم به وما ناضل من أجله. فالوحدة العربية التي كانت تعيش في صُلب احلامه وأهدافه لم تتحقق. بل إنه رحل وغيوم الإنقسام والتشظي تتلبد أكثر فأكثر في سماء الوطن العربي الكبير.

ولكن،

يغيب هاني، ولا يغيب الإيمان بعودة الوعي وبالأمل.. فأنت الآن – يا أخي وصديقي ورفيقي وحبيبي – قد حجزت لنفسك مكانا (حسب تعبير قديم للصديق المهندس محمد خالد) مع «الموتى النادرين الذين لهم مستقبل» بحكم امتداد أفكار مسيرتك النضالية في الأجيال القادمة. وكم من ميت… حي مثلك، وكم من أحياء بيننا… أموات!

رحيلك- يا أبا محمود- أخذ ما أخذه من روح حياتي مثلما أخذ بعضا مما تبقى من أسباب استمرارها… الإحساس ذاته غمرني يوم رحيل شقيقتي جمانة، ويوم رحيل والدي ووالدتي، وكذا مع رفاق الدرب الوطني، ولا أقول الحزبي أو الفصائلي، رفاق المسيرة القومية المتنورة والتنويرية بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية.

ألا بوركت يوم كنت بيننا، وبعد رحيلك عنا، وإلى لقاء قد يأتي أو لا يأتي… لكن ستبقى ذكراك منزرعة في عقولنا وقلوبنا (أو ما تبقى منها) إلى أن تحين لحظة نفارق فيها هذه الدنيا!!!